كتب يوم الجمعة,آذار 03, 2006
وهي من إنشاء أبي الحسن بن عياش، مؤرخة في ربيع الآخر سنة 564 هجرية، وكتبها من حضرة الموحدين مراكش، كتاب ( المن بالإمامة ) ص 376 وما بعدها..
وفي هذه الرسالة يُطلع كافة الموحدين والطلبة الذين بالأندلس على أمر اهتمامه بأحوال الجزيرة الأندلسية، والانشغال بها، والعمل على نصرتها، والحرص على قيام شأن الموحدين بها على كل قدم وساق، بالوقوف في وجه كل الأعداء؛ من بقايا المرابطين ( المجسمين)، وكل الناهضين في وجه الدعوة الموحدية من النصارى الطامعين وكل الثائرين والمشاغبين بأرض العدوتين الذين قد يحولون دون التفرغ التام لأمر الأندلس .
وقد يلاحظ القارئ تشابه الخط الفكري والتوجه المذهبي بين هذه الرسالة والرسالتين السابقتين وبقية الرسائل الموحدية، وكأنها صادرة عن شخص واحد، وهذا رغم اختلاف انتماء كتابها لبعض جهات العدوتين المتباينتين في كثير من الظروف والأحوال، بل إن جلهم كان قد تمرس بعمل الكتابة والإنشاء من لدن الدولة المرابطية كأبي جعفر بن عطية المذكور سابقا، وهذا يدل على أن الكتابة عملة نادرة يحرص الساسة في كل وقت على ضمها كقوة معنوية إلى قوة العقيدة والسلاح بكافة وسائل الإغراء أو المساومة والشراء.
وهذا التنوع في انتماءات كتاب الدولة الموحدية الجغرافية أعطاهم قوة تنافسية هائلة، ومكن لكتاباتهم هذا الغنى وهذا التنوع في طرق العرض والأداء الفني، وهذا مما قد لا يخفى على القارئ الحصيف.
أما وقد تبنت الدولة الموحدية مشروع الكتابة والكتاب، وأولته العناية الفائقة التي لا مزيد عليها حتى أمرت بقراءة الرسائل الموحدية في محافلها، والتبرك بها وإظهار البهجة ببشاراتها، بل وحتى بحفظها تعظيما لشأنها، وتقديرا لرسالة أصحابها في حفظ أساليب التعبير الإنشائي الخلاق وفي الإحتفاظ بصورة دولتهم المهيبة على صفحة التاريخ، كما يدل على ذلك المقطع الأخير من هذه الرسالة أيضا، فلا يسعنا إلا أن ندهش لهذا التوازي العجيب بين مشروع الموحدين الحضاري، وكتابة كتابهم التي نهضت بمهمة التعبير عنه في ساعات الفرج والضيق، وبعد أن آل مصير الدولة الموحدية وكل كتابها إلى الفناء المحتوم، كما لا يسعنا في نفس الوقت إلا أن نأسف على كل أشكال التردي والضحالة التي تشوب طرق تعبيرنا وأدائنا اليوم.
وإليكم الآن نص الرسالة:
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم، والحمد لله وحده.
من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين أيده الله بنصره، وأمده بمعونته.
إلى الطلبة الموحدين مِن الذين بجزيرة الأندلس ـ أدام الله توفيقهم وكرامتهم ـ سلام عيكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونشكره على آلائه ونِعمه، ونصلي على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونسأله الرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، القاضي بأمر الله تعالى والداعي إلى سبيله، ونُوالي الدعاء لصاحبه وخليفته الإمام أمير المؤمنين مُمشي أمره العزيز إلى غاية تتميمه وتكميله، .
وإنَّا كتبناه إليكم ـ وصل الله توفيقكم وكرامتكم بتقواه ـ من حضرة مراكش ـ حرسها الله ـ والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته، والاستعانة به والتوكل عليه.
وهذا الأمر العزيز بما وعده الله من النصر، وضمِن له من التأييد، وتكفل له من التمكين، وأراد من تَبَسُّطِه وامتداد غلْوائه، واتصال مِضماره، وخلوصه إلى كافة الأرجاء، وتغلغله في كل الأنحاء، لإكمال دينه، وإتمام نوره، وبث دعوته، وتصديق دعوته لا تزال(مواده) الحافظة لصوره، المبقية لأثره، المثبتة لأركانه، الممكنة لقواعده، تُشيع من الأسباب المقوية واللطائف المُنهضة، والمعاني المُعينة على سريانه، المزعجة لتسربه وجريانه، بما يؤذن له بإنجاز موعوداته، وتتبع مضموناته، حتى يستولي على مداه الذي لا غاية بعده، ويقف على منتهاه الذي لا مطلع وراءه، يقينا اطمأنت بمقدمات العلم به القلوبُ، وقرت على ظهور براهينه النفوس، وعضدته الآيات البينة، ونطقت به الآثار المفصحة، و(ناقلت) شواهد أحواله لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وما زلنا ـ وفقكم الله ـ على إتمام العناية بتلكم الجزيرة ـ مهدها الله ـ، والحرص على عونها، والانتِواء لنُصرتها، والعمل على قصد ذلك بالمباشرة والمشاهدة، إشفاقا على ما استضام منها جيرتُها الأعداءُ، وأبناؤها الأعقاءُ، مُجسِّمين وروما، وما كادوها به من التكلف والتحيف، والتنقص وفغْر الأفواه، وكشر النيوب والإرصاد لغَيْض ما فاض فيها من نور التوحيد، وخفْض ما نُصب من أعلام هذا الأمر، والمُناصبة للمُنحاشين إليه، المتعلقين بأسبابه، المُستذمين بذمته، ممن صح ولاؤه، وصدقت طاعته وخلص على السبك، ونصع مع السَّبْر، ونجعل لها من الفكر حظا يستحق الصدر على ما سواه من الأفكار، ويأخذ السبق على غيره من مُعنيات الأمور، ونراه من الأهم الأعنى، والأول الأولى، قياما بحق الله في جهاد أعدائها ومكابري (مناويها)، ومن لم تنفعه العبرُ على مرورها على بصره، وتواردها على مشاهدته وإهابتِها به، ولم يرْعَ سمعا دعوة الحق التي ملأت الخافقين، وقرع صوتها مسامع الثقلين، وتمكن أسبابَ التفرغ لذلك، والتوسعَ فيه والنظرَ في أحكامه، فتعترض من أهل هذه المغارب شواغبُ يثيرها الجهال، ويبعثها النَّعقةُ الضُلال، فلا يسعُ إهمالُها، ولا يسوغ الإضراب عنها، قياما بحق الدين، وتوقيا من استشراء الشر، وتوفر أسباب الفتنة، فينصرف إليها من الالتفات والقصد لحسم عللها وإبراء أدوائها ما يُقْشِعُ غياباتها، ويطهر أقذاءَها، ويُفضي إلى المقصود الأول من التفرغ للجزيرة ـ مهدها الله ـ والتوطئة لأمرها.
وما فتئ الاشتغال بهذا الغرب يَلِظُّ بأرجائه، ويشتمل على جوانبه، ويتخلل زواياه، وينظمُ أوعاره وسهوله، حتى صفَّى الله مشاربَه، وخلَّص من الشوب مشاِرعَه، ووقف بأهل الانتزاء من أصناف مُشاغبيه على تايبٍ أناب بقلبه، وندم على ما فرط من ذنبه، وعلى شقيٍّ تمادى في غلوائه، ولجَّ في تمرده، فولى كل ما استحق، وسِيم خطة ما رضي، ووجد التايبُ برد الأمان، وتبوأ كنف الإحسان، وحقت على العاصي كلمة العذاب، وأخذه التباب، والصيرورة إلى سوء المآل وشر المئاب،( وما ربك بظلام للعبيد).
ولما تولى الله هذه الجهات مِنة التمهيد، وبسط لها نعمة التسكين والتوطيد، انعطف النظرُ إلى محل مَثاره، وسال سيلُ الاعتناء إلى قراره،، وتوجه حفل الاشتغال إلى الجزيرة ـ مهدها الله ـ وتوفرت دواعي الاستعداد لنصرتها وجهاد عدوها، ورأينا في أثناء ما نحاوله من مَروم هذه الغزوة الميمنةِ المباشِر أن نقدم بين أيدينا عسكرا مباركا من الموحدين ـ أعانهم الله ـ صُحبة الشيخ الأجل أبي حفص ـ أعزه الله ـ يكون تَقدمة لجواز جمهور من الموحدين ومُؤذنا بما عزمنا عليه ـ والله المستعان ـ من التحرك بجملة أهل التوحيد والقصد لهذا الغزو الميمون الذي جعلناه نصب العين، وتُجاه الخاطر.
فتتعاونون مع إخوانكم الواصلين ـ على بركة الله إليكم ـ على جهاد أعدائكم إلى أن يوافيكم ـ إن شاء الله ـ هذا العزمُ، ويلم بكم هذا القصدُ، وتعتمدَكم هذه الحركةُ المحكمةُ أسبابُها، المُبرمَة أمراسُها التي انعقدت بها النية، واحتدمت لها في ذات الله الحمية، واستعانت بتوفيق الله في تأصيل أصولها الفكرةُ الموجهةُ والروية.
وإنا لنرجو من المبلغ لآمال القلوب، المتفضل بإدراك كل مطلوب، أن يهب فيها من العون ما يتممُ مبدأَها، ويكملُ منشأها، وتشفى به صدور أوليائه بالنقمة في أعدائه، وأن فضله تعالى ليسمح ببلوغ هذه الأمنية، الإطلال منها على كل شرف وتنية، فما ذلك على الله بعزيز.
وإذا طالعتم ـ وفقكم الله ـ هذه الأنباء واستعلمتم ما ضمنها من البشائر وعنوانات الفتوح، وآثار هذه القُصُود، وحملتم ذلك على الثقة بما وعد الله هذا الأمر والتلفُّت إلى ما عوده، رأيتموها نُعمى تخوَّلتكم، ورُحمى انتحتكم وأتتكم، وشرحتم لها صدوركم، وعمرتم بها إنحاءكم، وشغلتم بها مَشاهِدكم، وسررتم بها غايِبكم وشاهِدكم، وأذعتموها إذاعة تثلَجُ بها صدورُ الأولياء، ويكون للمؤمن منها مطلع أمل، وللكافر مطلع هول ووجَل، وعرَّفكُم الله شكر النعمة بها، وأعانكم على أداء واجبها، وبلغكم الفايِدة الجميلة منها، بمنِّه ويُمنه.
وإذا وصلكم هذا الكتاب فأشيعوه قراءة على من حضركم من أصناف الناس، وإرسالا بنسخه إلى من نأى عنكم، حتى يجد أثرَ الاستبشار به، ويترقب بمودَعه الغائبُ والشاهدُ، والحاضرُ والبادي إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتب في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمس مائة.
———–
هامش:
الكلمات التي وضعت بين قوسين فيها شك ولبس، كما نبه على ذلك محقق كتاب ( المن بالإمامة ) الدكتور عبد الهادي التازي، طبعة دار الأندلس، بيروت، 1964م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق