الجمعة، 31 أكتوبر 2008

مُجمَّعات التدوين العربية

مُجمَّعات التدوين الافتراضية ككتب الفهارس الورقية؛ فإذا كانت غاية الفهارس الورقية حصر أسماء المؤلفين واستقصاء عناوين الكتب التي كانت تظهر في كل عصر، من قبيل كتاب(الفهرست) لابن النديم (القرن: 4 هج) أو الكتاب الضخم (كشف الظنون..) لحاجي خليفة (القرن: 11هج) المشهورين في تراثنا التأليفي بحمع شتات الكتب العربية المصنفة قديما فإن مجمعات التدوين الافتراضية تسعى لنفس الغاية وهي التعريف بأكبر قدر ممكن من المدونات؛ من جهة التعريف بأسماء المدونين وعناوين مدوناتهم، ومن جهة الروابط الإلكترونية الرئيسية والفرعية التي تقود إليها، ومن جهة أنظمة الخلاصات التي تعطي القارئ أو الزائر نبذة عن مواصفاتها ومحتوياتها وجديد إدراجاتها.

وقد تعددت المواقع التي تقدم خدمة التعريف بالمدونات وفهرستها في كل بلدان العالم لامتلاء بيئة التدوين الافتراضي على الشبكة العنكبوتية بعدد لا يعد ولا يحصى من المدونين والمدونات مما يحتاج معه الأمر إلى جمع وتوضيب وترتيب.
ومجموع المدونات التي يتم حصرها في هذا الموقع أو ذاك هو الذي يمكن أن يحدد لنا في نهاية المطاف الفضاء التدويني (blogosphère) لمدينة ما أو لبلد ما أو لمجموعة بشرية ما أو لمجموعة لغوية ما.
وهكذا يمكن مثلا أن نتحدث في هذا الصدد عن مجمع مدونات المغرب أو مجمع مدونات البلدان المغاربية أو مجمع مدوني البلدان العربية، أو مجمع المدونين بلهجة ما أو بلغة ما في هذه الجهة أو تلك، أو حتى عن مجموع مجمعات تدوينية دفعة واحدة.

وقد كان المدونون أنفسهم هم أول من حاول جمع شتات زملائهم المدونين في نطاق واحد قبل أن تنتبه إلى ذلك المواقع المختصة بالفهرسة. وفي هذا الصدد لا بد من الإشادة بمجهود الأخ العربي الذي كان من أول المدونين المغاربة القدامى الذين وضعوا الخطاطة الأولى ل(البلوغوما) المغربية في نسختيها الفرنسية والعربية قبل أن تكثر مجمعات التدوين العربية الأخرى كثرة هائلة.
ولكل مجمع من مجمعات التدوين العربي شروطه الخاصة لقبول هذه المدونة أو لهذا الموقع في لوائحه وقوائمه، وذلك حسب التوجهات الفكرية أو السياسية أو الفنية أوالميول الشخصية أو طبيعة العلاقات التي تربط ذلك المجمع بنوع معين من المدونين.
وأنا هنا لست ضد وضع الشروط لترشيح مدونة ما في هذا المجمع التدويني أو ذاك إذا كان المنطلق ديموقراطيا وإذا كان الهدف نبيلا يسعى للرقي بقيمة التدوين العربي وتمييز جيده من رديئه، ولكنني ضد المجمعات التدوينية التي تضع شروطا مجحفة لجعل مجال التدوين العربي حكرا على بعض الأسماء دون بعض.

وجميل أيضا أن يكون فهرس بعض المجاميع العربية شاملا مفتوحا للجميع من غير قيد أو شرط، غير أن هذه الشمولية إذا لم تكن منظمة فإنها تصبح فوضى؛ وحبذا لو وزعت فهارسها إلى قوائم متمايزة مستقلة؛ فتكون هناك قائمة خاصة بالمدونات التقنية وأخرى خاصة بالمدونات الأكاديمية وأخرى بالمدونات السياسية وأخرى بالمدونات الترفيهية وهكذا دواليك، أو على الأقل أن يكون ترتيبها أبجديا كما هو حال الفهارس الورقية..
وحتى المواقع المستضيفة للتدوين تحرص على وضع فهرسة نموذجية خاصة بها، ولكنها فهرسة بعيدة عن الموضوعية لأنها في الغالب لا تخرج عن مجال الدعاية إما لأكثر المدونات انتشارا أو لأكثرها تعليقا لديها، مما يفسح المجال لأشكال مختلفة من التحايل والغش من قبل بعض المدونين المتسلقين الذين لا هم لهم إلا تصدر تلك الواجهة الدعائية لأطول فترة ممكنة.

ولكي يأخذ التدوين العربي مساره الصحيح ينبغي أن يكون الوعي بقيمة التدوين كحركة تقنية وفكرية ملائمة للتعبير عن روح العصر الجديد شعورا مشتركا بين المدون من جهة أولى وبين مواقع الاستضافة من جهة ثانية، وبين مجمعات التدوين من جهة ثالثة.
فإذا كانت الرؤية مشتركة والأهداف واحدة بين هذه العناصر الثلاثة بعيدا عن كل مصلحة ذاتية ضيقة أمكن الحديث عن بيئة تدوينية عربية جديرة بالاحترام والمصداقية.

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2008

محاضن التدوين العربي؛ الورقة الثانية

ليس هنا، في هذه الورقة الثانية، أي مجال للمفاضلة بين هذا الموقع المحتضن للتدوين العربي أو ذاك، فالأمر متروك إلى المدون نفسه؛ فهو الذي يختار الانتساب إلى موقع ما من بين مجموعة عديدة من المواقع المحتضنة ليجعلها مستودعا لبنات أفكاره ومستراحا لممارسة أنشطته التدوينية المختلفة، وذلك بمحض إرادته، وفي حدود معرفته واطلاعه.

ولا نملك هنا إلا أن نشيد بجهود المشرفين على أي موقع يقدم خدمة الاستضافة المجانية التي تدعم اللغة العربية. فتحية إلى كل من عمل في الخفاء على جمع شتات المدونين العرب ونظم حبات عقولهم في سلك واحد، وتكرم بإتاحة مساحة افتراضية ما لغيره كي يصول فيها ويجول.

غير أن محاضن التدوين بهذا المفهوم قد تصبح في نهاية المطاف كالدوائر المغلقة أو الجزر المعزولة النائية في محيط بحر الأنترنت العظيم؛ فمدونات مكتوب أو مدونات جيران أو مدونات وورد بريس أو البلوغر العربيين أو غير ذلك دوائر مغلقة وجزر تكاد تكون معزولة عن بعضها البعض، فالداخل إليها مولود والخارج منها مفقود، كما يقال. والدليل على ذلك أن مدوني مكتوب لا يكاد يعرفهم أو يعلق على إدراجاتهم غير زملائهم المدونين في مكتوب أيضا، والأمر نفسه ينطبق على بقية مواقع الاستضافة المجانية. ولولا وجود محركات البحث التي تقود عموم الزوار إليها بالصدفة لكان واقع عزلتها أكبر وأفدح.

وبعض أصحاب المدونات المستقلة لا يتورعون عن نعت زملائهم المدونين المنتسبين بالألفاظ والمصطلحات التي تشير إلى دلالات التجمعات العربية الحقيقية المعروفة ك(القبيلة) و(العشيرة)، فيتحول موقع مكتوب في أذهان البعض إلى قبيلة عربية افتراضية مثلها مثل أي قبيلة عربية حقيقية عشائرية عتيقة في الأردن أو في الحجاز أو في العراق أو في المغرب الأقصى، ويتحول موقع البلوغر في أذهان البعض أيضا إلى حي افتراضي معاصر مثله مثل أي حي غربي حقيقي يقع في هوامش باريز أو في لندن أو نيوورك أو ساو باولو وغيرها من الأحياء الغربية المكتظة بالمهاجرين والأفاقين والهاربين إليها من كل فج عميق من الضنك والضيق... فلا تسهغرب إذا وجدت أحدهم ينعت مدوني مكتوب بقبيلة مكتوب، أو مدوني البلوغر بحي البلوغر...

ومن حق المدون المستقل أن يستشعر حريته التامة في التدوين ويتنفس ما وسعه الجهد في فضائه الأثيري الخاص، ويحلق في مجاله الافتراضي كيفما يشاء صعودا ونزولا؛ فله حرية امتلاك النطاق، وله حرية التصرف الكامل في كل صغيرة وكبيرة تخص أمر مدونته قلبا وقالبا، غير أن هذا الشعور قد يتحول عند البعض إلى نوع من التعالي الارستقراطي عندما ينظر من موقع التباهي تارة والاحتقار تارة أخرى إلى غيرهم من الدهماء والغوغاء المنتسبين إلى قبيلة آل مكتوب أو آل جيران، أو غيرهم ممن أسكنوا أفكارهم في الأحياء اللاتينية في موقعي البلوغر أو الورد بريس أوفي غيرهما من المواقع الغربية التي تقدم خدمات الاستضافة المجانية, وهي كثيرة ولا يمكن أن تعد أو تحصى، وتتفاوت فيما بينها تفاوتا بينا من حيث شروط الاستضافة ومن حيث نوعية الخدمات والخيارات المتاحة...

فهل يجوز لنا بهذا المنطق أن نتحدث عن شكل جديد من أنواع التمايز الطبقي الافتراضي في بيئة التدوين العربي؛ بين من يمتلكون حرية كاملة في التدوين المستقل وبين من يمتلكون حرية منقوصة في التدوين المنتسب؟.
وأنا لا أستطيع أن أنكر أن بعض المدونين المنتسبين يعملون من حيث يدرون أو لا يدرون على زعزعة الثقة في التدوين المنتسب بما يقومومن به من سلوكات تدوينية غير واعية وغير مسؤولة، وبما ينفثونه من السموم وبما يرمونه من الشراك والحبال الملتوية في الطرق الافتراضية السيارة لإثارة الانتباه واصطياد أكبر عدد ممكن من الزوار..

ولكن، كما أن مواقع الاستضافة المجانية العربية فيها كثير من الغثاء الافتراضي الذي يثقلها بحمولة افتراضية زائدة لا تسمن ولا تغني من جوع فيها قدر مهما من التدوين الجيد الناضج الصالح لقطف الثمار، ولكنه يكاد تضيع في موجة الغثاء ولا يكاد يتميز إلا بصعوبة.
ولكي يتميز جيد التدوين من رديئه لا بد من خلق وسيط جديد من مواقع التدوين يكون صلة وصل بين المدونين المتميزين، سواء أكانوا مستقلين أو منتسبين من جهة، وبين القارئ أو المتصفح الافتراضي النموذجي من جهة ثانية. وهذا الوسيط هو مجمعات المدونات العربي المنتقاة. وهذا هو موضوع الورقة الموالية.

الجمعة، 24 أكتوبر 2008

محاضن التدوين العربي؛ الورقة الأولى

لم يكن بوسع التدوين العربي أن يأخذ حظه الكامل والوافي من الانتشار في بحر الإنترنت المتقلب في مده وجزره لولا محاضن التدوين الكثيرة.
ولفظة (المحاضن) تتضمن إشارة مرجعية إلى الخـُم الطبيعي أو بيوت الدجاج الطينية أو الإسمنتية أو البلاستيكية أو الاصطناعية الحرارية حيث يتم تفريخ وتكثير الكتاكيت بالجملة حتى تكبر وتصبح جاهزة للذبح والاستهلاك العمومي داخل البيوت أو في المطاعم.
فبين محضن الدجاج ومحضن التدوين علاقة مشابهة ومماثلة على هذا الأساس فقط أي: أساس وظيفة التوليد والتكثير، ولا ينبغي أن يذهب ظن أحد القراء الأعزاء بعيدا فيتوهم أني أشبه المدونين العرب بسلالة الدجاج التي قد لا تملك من أمرها شيئا غير الصراخ والقوقأة. وإن كان هناك من بعض أشباه المدونين من إذا وزن حِلمُه رجح عليه عقل أصغر كتكوت منسجم مع شكله ووزنه ومع عادات وتصرفات سربه الغريزية التي أودعها الله فيه منذ النشأة الأولى التي لا يعلم مـُبتدأها البعيد غيره عز وجل....
وإن نظرة سريعة على بعض محاضن التدوين العربي الشهيرة ك (مكتوب) أو(جيران) أو(مدونتي) بالإضافة إلى محاضن التدوين الغربية التي تدعم اللغة العربية ك (ورد بريس) أو (البلوغر) أو (بلوغ سبيريت)... وغيرها كثير تعطينا إشارات قوية على ارتفاع مهول في عدد المدونين المنتسبين إليها بالجملة والتقسيط.
ومن يتأمل هذا الحشد الهائل من المدونين العرب المنتسبين إلى هذا المحضن أو ذاك يخيل إليه أن موسم الهجرة العربية إلى عوالم التدوين قد بلغ الغاية والنهاية التي لا مزيد عليها، وإن كان منطق عمل البيئة الافتراضية يأبى إلا أن يسع الجميع..
إن درجة الامتلاء الافتراضي العالية التي أصبحت عليها محاضن التدوين العربي إلى حدود يوم كتابة هذه السطور تشبه حقينة سد عال بلغت حدا معقولا من الامتلاء والارتواء. وهي تتيح للباحث والمتتبع لظاهرة التدوين العربي مادة غزيرة للبحث والمقارنة، ولدراسة النماذج البشرية ولأنماط السلوك، ولطرق الاشتغال المختلفة التي تتحكم في عقل كل مدون عربي على حدة، وذلك عندما يفكر أو يكتب أو يعبر بكلمة أو بصورة ثابتة أو متحركة أو حتى بأيقونة..
وبعض قدماء المدونين العرب المنتسبين الذين التحقوا بمحاضن التدوين على مكتوب أو جيران بقوا أوفياء ملتزمين ومتمسكين بمواقعهم الأولى التي احتلوها في هذا المحضن أو ذاك، ولا زالوا إلى حدود هذه الساعة يواظبون على إرسال جديد إدراجاتهم دون انقطاع.
وأنا واحد من هؤلاء؛ فقد مضى على التحاقي بمحضن (مكتوب) ما يناهز ثلاث سنوات، ولم تراودني في أي يوم من الأيام فكرة حجز أو استئجار نطاق خاص بي مع أن كثيرا من الزملاء أشاروا علي بترك التدوين المنتسب والاستقلال بموقع شخصي مستقل عن ضغوط التدوين المنتسب وإكراهاته.
إن التدوين المنتسب أشبه ما يكون بالسكن في الحارة والحومة ففيه من الألفة، وفيه من المودة، وفيه من لذيذ العيش المشترك ما لا يشوش عليه إلا الزعران والأوباش بحركاتهم الطائشة عندما يتحرشون بغيرهم من الناس عبر المعاكسات والتعليقات البذيئة...

وقد يشعر بعض المدونين المنتسبين الأصلاء أن جهودهم الطيبة في التدوين يمكن أن تضيع، كما يمكن أن تضيع أصواتهم في موجة الازدحام العام في سوق عمومي أو في ملعب كبير لكرة القدم غاص بالمتفرجين المتعصبين لهذا الفريق أو ذاك فهم يصرخون في كل اتجاه، وأنه مهما كان مبلغ هؤلاء المدونين من الإبداع في حقل التدوين الجاد فإن الفضل الأول يبقى للدار الافتراضية المستضيفة أو للموقع المحتضن.
وفي هذا ما فيه من الإجحاف بالحقوق المادية والمعنوية لفئة من المدونين الجادين المقاومين لدوائر العزلة العصيبة في صمت؛ فقد جرت العادة أن تتنصل المواقع المحتضنة من كل التزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه المدونين، كما تنص على ذلك عبارة إبراء الذمة الموجودة أسفل كل مدونة منتسبة، وكأنهم مخلوقات هلامية لا تقدم ولا تؤخر شيئا في حركة الحياة، أو كائنات بشرية من الدرجة الثانية لم تبلغ سن الرشد، رغم أنهم يسجنون ويقبض عليهم كغبرهم من البالغين ومن الكتاب والصحافيين والفنانين ذوي الرأي المعارض الذين يشار إليهم بالبنان، أو ممن يسبحون ضد التيار؛ فكم من مدونة قد حجبت، وكم من مدونة قد شطبت وأصبحت أثرا بعد عين، وأخرى قد أغلقت بشمع السلطة الأحمر حتى إشعار آخر. فأي تناقض أغرب من هذا عندما تـُمنع لكي لا تـُعطى، وعندما تـُعطي لا يـُعترف لك بذلك، ولا تنال الحد الأدنى من المقابل المحفز، أو من خميرة العطاء المتواصل..!!

إن مفهوم كلمة (مدون) لازال غامضا وملتبسا ولا نعثر له على تعريف دقيق بخلاف كلمة (مدونة) مثلا، ولم تمتلك كلمة مدون بَعدُ بُعْدها القوي الفعلي في نفس المدون وفي محيطه كما هو الحال بالنسبة لكلمة كاتب أو روائي أو شاعر أو صحافي أو فنان أو ما شئت من الأسماء والألقاب والنعوت الإيجابية المعترفة بفضل صاحبها وأثره ؛ أثر يكون له وقع مادي ومعنوي ممتد في حياة صاحبه وحتى بعد مماته. فماذا يكسب معظم المدونين من تدوينهم غير حرق الأعصاب وإهدار الجهد في التفكير والتعبير والتنسيق؟!!.

وأنا أستثني ثلة من المدونين التقنيين المحترفين الذين يعرفون من أين يؤكل لحم الكتف ليربحوا ويغنموا من نشاطهم التدويني التقني في الغالب؛ وذلك عبر ربط علاقات شراكة نفعية مع شركات ومواقع يكون لهم منها كثير من الربح المعنوي ومن الشهرة في أوساط المدونين والقراء والزوار العابرين بمواقعهم ومدوناتهم، وقليل من الريع المادي العائد مقابل خدماتهم التقنية في التصميم والبرمجة والدعاية التسويقية.

ومع كل هذا وذاك، أدرك وأعي تماما أن قيمة المدون الحقيقي تكمن فيما يتقنه أو يحسنه في هذا الفن التدويني أو ذاك، سواء في مدونة مستقلة أو في مدونة منتسبة.

الاثنين، 20 أكتوبر 2008

سلطة التدوين؛ من الرغبة الأولى إلى المحاكاة

كل مدون يعمل على شاكلته، وكل مدون قد أتى إلى منصة التدوين من حيث انتهت إليه تجاربه في الحياة، بغض النظر عن عمق تلك التجربة أو ضحالتها، وبغض النظر عما تكون لديه من آراء ووجهات نظر أو مواقف حولها، كما أوضحنا ذلك في كثير من الإدراجات السابقة.

وليس البلوغ شرطا ضروريا لافتتاح مدونة أو إنشاء صفحة شخصية على الشبكة العنكبوتية، كما هو واقع الحال عند الرغبة في الحصول على رخصة قيادة سيارة مثلا أو ممارسة أي نشاط أو سلوك خاصين بالبالغين؛ فللأطفال الصغار كما الكبار مواقعهم ومدوناتهم وصفحاتهم التي تتناسب مع عالمهم الافتراضي الخاص الذي يعج باللعب والمرح، وبالألوان والرسوم، وبالخيال والفنتازيا الكرتونية الجامحة المليئة بالخوارق والعجائب.

ولم يعد نشاط الأطفال التعليمي محصورا في فصول القسم، بل أصبح له امتداد آخر في حجراتهم الافتراضية الموصولة مع بعضها البعض عبر إمكانيات التواصل المباشر بالتعليق والحوار، وحيث يمكنهم أن يغيروا ويقترحوا ويتبادلوا الدمى والزخارف والملصقات والإكسسوارات الرقمية وكأنهم ما افترقوا جسديا بعد خروجهم النظامي من المدرسة إلا ليلتقوا ثانية بخيالهم وعقولهم عبر تلك الحجرات التي يجدون فيها متسعا يغنيهم عن حكايات الجدة البائدة وثرثرة وضوضاء التلفاز.
ولم تعد حتى اللعب الحقيقية المصنوعة في معامل الصين أو اليابان بإتقان فائق في الرشاقة والحركة والصوت لتثير شغف الأطفال وشغبهم بقدر ما تثيرهم الدمى الافتراضية التفاعلية التي يستطيعون أن يغيروا في أشكالها وأحجامها وألوانها، وكأنهم هم الذين صنعوها للحظة والتو في مصانع مخيلتهم الصغيرة.

إن الرغبة الجامحة التى تتولد في الإنسان لإنشاء مدونة سواء عند الكبار أو الصغار هي أول سلطة يخضع لها الشخص العادي قبل أن يتحول إلى كائن افتراضي بالتدريج؛ فعندما نتطلع إلى مدونات الآخرين ومواقعهم تتولد فينا الرغبة في محاكاة بيوتهم الافتراضية والبناء على منوالها في التصميم والهندسة والزخرفة والتنسيق، أو في أسلوب الكتابة، أو في طريقة البحث عن القضايا والموضوعات والأفكار.
وعلى هذا، فالمواقع والمدونات والمنتديات في تزاوج مستمر. وكل منها يؤثر ويتأثر بمقادير متفاوتة، إلا أن تكون عقيمة وغير ذات جدوى، فإنها في هذه الحالة تكون من قبيل الغثاء الافتراضي الذي يجرفه وادي السليكون بقوة حتى يتسرب في قعر المحيط الافتراضي العميق.

وقد أصبحت للمحاكاة الافتراضية سلطة لا تقاوم حتى على المدونين المحترفين؛ فهم يسعون باستمرار إلى تطوير مدوناتهم ومواقعهم عن طريق اقتباس كل طريف وجديد في مجال تصميم وهندسة المواقع والصفحات الإلكترونية.
وكم هي قليلة تلك المواقع أو المدونات أو المنتديات التي احتفظت بتصميمها الأول إلا أن تكون علامة مسجلة كما هو الحال بالنسبة لتصميم موقع كوكل وياهو وغيرهما من المواقع العملاقة.
ولو حاولت أن تسترجع النسخ الاحتياطية المحفوظة لدى محركات البحث لكثير من المواقع والمدونات العربية والعالمية لتبين لك أنها تغير جلدها بين عشية وضحاها.

إن أكبر عدوى يشهدها عصرنا هذا هي عدوى تحول البشر من كائنات عادية إلى كائنات افتراضية. وكل واحد من البشر يسعى جهده ليحوز موقعا افتراضيا يتسع له إذا ما ضاقت عليه الدنيا، أو ضاقت به أخلاق الناس.سلطة التدوين؛ من الرغبة الأولى إلى المحاكاة.سلطة التدوين؛ من الرغبة الأولى إلى المحاكاة.

السبت، 11 أكتوبر 2008

صراع الحرف والصورة في حياتنا الافتراضية

كان الكلام شرودا يضيع بين الناس مع الزفير الذي ينفثونه، حتى اخترع له الإنسان الخط والحرف فكانا له وعاء حافظا وإطارا مانعا.

والمسافة الفاصلة بين الخطوط والحروف ومضمونها من الكلام هي نفسها المسافة الفاصلة بين مكنون الصور وظلالها وألوانها وأبعادها. فكل منها محتوى وقالب، وحامل ومحمول، وذكر وأنثى، وطالب ومطلوب.
وخلاصة العالم حرف مخطوط أو مرقون أصله فكرة، وزبدة العالم المتمخضة عن وفاق أو اختلاف مع المحيط صورة منمنمة أو ملتقطة أو مخلقة في رحم الكمبيوتر.
والعالم في رأس الإنسان كأنه صفحة مطوية داخل كتاب أو لوحة جدارية في مرسم، أو خصائص رقمية لا متناهية في دوائر الحاسوب الإلكترونية، ونقطا ضوئية دقيقة في شاشات العرض الافتراضية...
ولو كان العالم بالأبيض والأسود لأوجد له الإنسان الألوان حتما وضرورة، لقدرة الصورة العجيبة على اختزال ثرثرة الكلام.

وأنا في هذه المدونة التي أطلق منها كلماتي العابرة أقر بأني اخترت الانحياز إلى جانب الخط والحرف انتصارا لحق الكلمة في التعبير ومقاومة استعباد الصور. وأنا أعتذر عن زوار مدونتي إن كادت تخلو من الصور.
فنحن نعيش الآن عصر زحف الصور التي تغمرنا بطوفانها من كل جانب كطوفان الجراد والقمل والضفادع التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. والناس في عصرنا ينجذبون إلى وهج الصور وألوانها الزاهية في كل موقع افتراضي، ولو كانت صورا تفيض بالدم والفجور...
وما عدنا نقرأ العالم بعقولنا، وإنما نقرأه بحواسنا وغرائزنا. وحدها الصور كفيلة بذلك ، وهي أقدر من أي سلطة كلام على اختزال تفاصيل المشهد كله في أقل من لمح بالبصر أو بعدسة الكاميرا السحرية.

ولا شك أن التقنية الحديثة أضحت مسعفة أكثر من أي وقت مضى لإنتاج الصور على اختلاف أشكالها وأحجامها ووظائفها، مع إمكانية استنساخها وتعميمها على أوسع نطاق في اللحظة والتو. ويعمل خبراء التقنية على مدار الساعة على تطوير آخر الصيحات المبتكرة في هذا المجال.
ولا يملك الإنسان إلا أن يندهش من هذا التطور المذهل الذي حصل على مستوى ترسيخ عادة تواصل الإنسان الحديث بالصور عبر الدعاية والإشهار، وعبر تيسير تطبيقاتها واستعمالاتها المختلفة من خلال أجهزة العرض والاستقبال المتنوعة التي استعبدت عقل الإنسان وقللت انتباهه وتركيزه على ذاته ومحيطه.

لقد صار العالم الافتراضي لبهاء صوره أشبه بالحلم اللذيذ الذي لا يريد أي واحد منا أن يصحو منه، إلا إذا هده تعب الإبحار في محيط النت العظيم، أو إذا عزل التيار الكهربائي عن حاسوبه وهاتفه، أو فقدت حرارة الاتصال من الأسلاك والخيوط المتصلة ومن أثير السماء المفتوحة.
وحتى الهاتف النقال الذي ابتكر أول الأمر لتيسير تواصل الناس عن بعد بالكلام أصبحت معظم تطبيقاته الأولى متجاوزة بعد أن ركبت له عدسة وشاشة موصولة بالعالم لتـَرى وتـُرى.
وتوفر شركات صنع أجهزة الاتصال الحديثة مواصفات جمالية من حيث سطحها الأملس الشفاف وانسيابية الشكل مع التناسق التام بين الإطار وشاشة العرض وأماكن وضع الأزرار. فهي، وإن كانت في وضعية إيقاف التشغيل، تظل تمارس سحرها في صمت تام، لتحرك في الإنسان الشهوة إلى ملامستها ومداعبة أزرارها بالأنامل كأنها تضاريس أنثى بضة ناعمة في مقتبل عمرها الريان الفتان.

ربما يدرك المعلم أو الأستاذ، وهو يمارس لعبة التلقين بالكلام أن مستوى التعبير عند تلاميذه أو طلابه قد كاد يتحول إلى حشرجة وأن الكلام يضيق عليهم ولا يكاد يبين، إلا إذا فتح جهاز هاتفه أو حاسوبه المحملين واطلع على ما فيهما من نقوش وأبجديات الصور ... !!
فهل نعيش في هذا العصر الافتراضي الجديد البوادر الأولى لاحتضار اللسان وموت لغة الكلام... !!

الأربعاء، 8 أكتوبر 2008

نهاية أمريكا؛ هل هي نهاية العالم...؟

منذ أن بدأت أركان بيت المال الأمريكي في التضعضع خلال الأيام القليلة الماضية والتقارير الاقتصادية تتصدر نشرات أخبار تلفزيونات العالم الأرضية والفضائية على مدار الساعة. وتلك سابقة لم نعهدها منذ الانهيار الكبير لبيت المال العالمي سنة 1929 .

وقد صار اللون الأحمر علامة مميزة لأسواق البورصة من خلال شاشاتها التي تلونت بلون الدم في هذه الأيام الخريفية القاتمة شاهدة على طاعون مالي أمريكي رهيب لا يبقي ولا يذر، وقد بدأت نذره الوبائية تنتشر انتشار النار في الهشيم في كثير من عواصم المال القطرية والعالمية شديدة الحساسية تجاه أنفلونزا الاقتصاد والمال...

وقد غدت عيون المستثمرين والمساهمين التجاريين وأصحاب الودائع والصكوك والسندات ورؤساء الأموال وأصحاب الشركات والمعامل والمضاربين لا تفارق شاشات العرض الموصولة بشريان الاقتصاد الأمريكي الموبوء، لتصيبهم بالذعر والهلع وتجعلهم يضربون أخماسا في أسداس وليهرع الجميع إلى المجازفة والبيع السريع لاسترجاع جزء صغير من رأس المال بركام هائل من الخسارة. قنطار علاج مقابل درهم وقاية، على عكس المثل المأثور..

ومن وراء كل ذلك محللون اقتصاديون حائرون مترددون، وأنفاس وزراء المالية والاقتصاد في بلدان العالم كما في بلداننا العربية المهيبة محبوسة وأيديهم على قلوبهم وخياشيمهم داخل غرف مغلقة مخافة العدوى في انتظار حدوث معجزة تعيد نبض قلب البورصة الأمريكية من جديد بعودة المؤشر الأخضر إلى شاشات العرض المالية الإلكترونية.
ولكنهم قد يخرجون بين الفينة والأخرى عن صمتهم للظهور على الملأ لشرح واقع الحال الاقتصادي في الداخل الذي يزعم كل واحد منهم ويقسم بملء شدقية أنه لم يتأثر بعدوى الرياح الاقتصادية الموبوءة القادمة من بلاد العم سام ببركة السماء وببركة الدعاء: ( اللهم حوالينا لا علينا)، مع أن الوقائع ومجريات المال الملموسة على مستوى حركة الاقتصاد وسيولة المال تكذب كل أفاك أثيم يجازف بمدخرات بسطاء الناس الذين لا يعلمون على أي حال سيكون غدهم في صبح أو مساء.

ولكن، ليطمأن رعاع الشعب المغربي المسحوق الذي لا له ولا عليه في هذه المسألة كلها قانعا بالكفاف والعفاف والغنى عن الهمبورع الأمريكي على سلامة بيته ومعدته الحديدية التي قدت من عدس... ركن معدتي حديد سقف بيتي قصب، على غرار الأنشودة المعلومة التي حفظناها والتي حُقنا بها أيام الصغر مع لقاح داء (السل) و(الكزاز) و(بوحمرون) وبقية الأمراض الفتاكة المبيدة للنسل...

انهيار اقتصاد أمريكا بهذه السرعة بدا لكثير من الناس الذين سمن كيسهم بالذهب وودائع المال المكدسة كأنه يوم قيامة حل قبل الأوان، حيث الكل يتساءل ويسأل ويستعرض صفحات ما اقترفت يمناه أو يسراه. فمن المُليم ومن الملام في عالم مختلط متشابك حيث الكل متهم والكل متورط، وحيث القارض والمقترض، وحيث الضارب والمضروب، وحيث أنا وأنت سواء فيما أصابنا من مُصاب ماما أمريكا سيدة العالم وعرابة وخالة الجميع.... !!

ومهما تعددت الأسباب فإن موت ماما أمريكا واحد... أو ليست ماما أمريكا كباقي السيدات الشقراوات عندما يكن في أوج طراوتهن وإقبالهن على متع الحياة وعلى رجال المال والأعمال؛ أوليس اسم كل حسناء شهيرة يكون في العادة مقترا باسم رجل شهير بماله وشركاته وقضه وقضيضه ثم ما يلبثن أن يختمن مشوارهن بعمليات جراحية تشوههن أكثر مما تجملهن!! ...

يالسخف الموقف ويالسخرية كثير من التعليلات التي تجعل كل فرد من العالم مسئولا عما حدث لماما أمريكا بسبب ما اقترفه في حقها أو لمجرد سوء نيته تجاهها وعدم إبداء رغبته في التعاون معها، وهي التي مدت خرطومها المؤيد بقوة السلاح والجند والنار بعيدا في كل مكان من العالم للشفط ثم الشفط حتى يكون للأمريكي وحده حق الإنفاق في الداخل كيف يشاء كأي طفل قاصر مدلل همه في أكله وفي لهوه وفي عبثه ومجونه..!!

هذا أوان نضج مزرعة الشر التي أينعت في عهد عراب حروب هذا القرن جورج بوش، وقد آن أوان قطافها، علها ترتدع لتكف أيديها وترفع وصايتها عن فلسطين وعن العراق وأفغانستان وبقية شعوب العالم المستضعفة.

الأحد، 5 أكتوبر 2008

على هامش اليوم العالمي للمدرس 2

يصادف الخامس من كل أكتوبر تشرين الأول اليوم العالمي للمدرس. وليس غريبا أن يتزامن موسم الدخول المدرسي في بلادنا المغرب وفي كثير من بلاد العالم مع انطلاق الموسم الفلاحي، فكل من المعلم والفلاح حارث وزارع؛ فهذا يخرج عند كل موسم محفظته وكراسه من دولابه وذاك يخرج محراثه وجراره من مرآبه.

لقد تغيرت الصورة النمطية القديمة التي كان يحملها المغاربة في أذهانهم عن المعلم القديم بوجاهته ووقاره ومكانته الاجتماعية وبهندامه ونوع سيارته.

وأذكر أن سيارة (السيمكا) كانت علامة مميزة لفئة المعلمين على الخصوص في فترة السبعينات بالإضافة إلى (الرونو 12) و(الرونو16).

ففي ذلك الزمن كانت وجاهة المعلم الاجتماعية وظروفه الاقتصادية تسمح له باقتناء مسكن لائق وسيارة جديدة من الطراز المذكور أعلاه، وقفة لا تخلو في يوم واحد من هبر اللحم والفواكه وبذلا مفصلة على المقاس عند الخياط وأقمصة منعمة بالمكواة وأحذية ملمعة بالورنيش عند كل صباح وربطات عنق مناسبة ومحفظة أنيقة من الجلد الطبيعي الرفيع.

وعندما نتطلع اليوم إلى أرشيف صور المعلمين الجماعية القديمة نحسب أنهم كانوا من الفئة الدبلوماسية التي مثلت حالة البلاد الثقافية في ذلك الوقت خير تمثيل.

لقد ذهبت أيام (السيمكا) أدراج الرياح، وتبخرت معها ذكريات ذلك النعيم المقترن برجل التعليم كطيف حلم مر سريعا وما تبقى من سيارات المعلمين العتيقة للموتى منهم أو المتقاعدين أو الذين بلغوا من العمر أرذله قد تحول إلى عربات معدلة لتوزيع الخبز ومختلف المواد والسلع بالتقسيط في أوساط صغار التجار والحرفيين.

ولم تعد مواسم الدخول المدرسي مواسم للاحتفاء بالمعلم بل مواسم حكومية تجارية لبيع جديد مقررارتها ومطبوعاتها الموسمية لإرهاق كاهل التلميذ عند كل موسم بالحمولة الزائدة من الكتب والدفاتر، ولإغراق معيل ذلك التلميذ أو كفيله بتكاليف التمدرس التي لم تعد تطيقها غير الأسر الميسورة.

صورة معلم اليوم ليست إلا نسخة شاحبة باهتة لصورة المعلم القديم الأنيق الوسيم كشاة منبوذة في الفيافي بعد أن أصابها الجرب وهزال الموت في أيام الجفاف والقيظ؛ فقد تدحرجت مكانة المعلم إلى الدرجة الأخيرة من سلم العيش، وقد صار شحوب مهنة التعليم علامة مميزة على محيا معظم المعلمين، وبذلك يعروفون عند الخضارين وعند أصغر نادل في المقهى، وحتى عند أصحاب أكشاك الجرائد وأصحاب محلات الرهان واليانصيب الذين يبيعون وهم الربح الوفير بالخسارة الصغيرة، لكن مثلى وثلاث ورباع وهلم مراهنة حتى يفرغ جيب المعلم الحالم المتطلع بشوق إلى انقلاب حاله...

وقد صار أقصى حلم المعلمين الشباب المتخرجين للتو والمعينين في مجموعات مدارس قريبة أو بعيدة أن يهجروا بلدهم الذي سامهم خطة خسف هجرة سرية لا يعلم بها رقيب الحكومة وجمركها في قوارب الموت كأي (حراق) مغامر شبه عامل أو عاطل.

وفي مقاهي الأنترنت وعبر وسائل التراسل الفوري والتشات تجد عددا كبيرا من المعلمين يرمون صنانير الغزل والغرام في بحار الإنترنت في معظم أوقات فراغهم علها تجذب انتباه فتاة أو حتى عجوز أوربية أو أمريكية تنقذهم من دوائر الضيق والضياع والفراغ، وتطير بهم إلى ذلك الفردوس الذي افتقدوه في بلدانهم وفي ظل حكومتهم مثلهم مثل أي عاطل يائس لا يفارقه حلم الهجرة البعيد لملامسة شمس الغرب التي يمكن أن تغير جلده وتملأ جيبه.
---------
إدراجات ذات صلة:
على هامش اليوم العالمي للمدرس (1)

السبت، 4 أكتوبر 2008

غواية افتراضية

العوالم الافتراضية دنيا أنثوية عجيبة جذابة مخملية، وقد وصلت سن البلوغ بسرعة مع أنها حديثة العهد والتكوين والنشأة.
وقد أصبح التطلع إلى سحر الشاشات الإلكترونية الفاتنة وملامسة لوحة مفاتيحها الرقمية بأزرارها الكثيرة المصفوفة عادة يومية مستحكمة لا يملك أكثر الناس منها مهربا أو فكاكا.
والمعروض الافتراضي المتاح على الدوام عبر نهر السليكون وجداوله كبير ومنوع يتطلب في كل يوم برمجة مبتكرة وأجهزة عرض مستحدثة تصنعها كبريات الشركات التقنية المتخصصة المتنافسة.

غير أن عمر الإنسان المحدود بالمكان والطاقة والصحة والمال لا يفي مع الأسف إلا بالاطلاع على نزر يسير فقط من ذلك المعروض الافتراضي الهائل، وفي الحدود الدنيا لما يملكه إنسان بسيط من خبرة فنية وبرامج وأجهزة تقنية قد تفي اليوم ولكنها قد لا تفي غدا بالغرض المطلوب منها لتصبح كحمار الشيخ الذي وقف في العقبة، أو سيارة متهالكة مفككة الأوصال أحيلت على سوق الخرذة.
ومن هنا كانت مأساة الإنسان الافتراضي اليوم فيما يفوته في كل يوم من حلقات افتراضية تتطلب تحيينا ذاتيا مستمرا للمعارف الافتراضية والخبرات التقنية للعرض والتنسيق والبرمجة. فأعقد ما في العوالم الافتراضية هو هذا التلازم الشديد بين المعروض الافتراضي ومستلزماته التقنية العديدة؛ ومن منا يقدر مثلا أن يلاحق كل صيحة جديدة مدوية في عوالم الهواتف النقالة والحواسب المحمولة؟ وحتى إذا افترضنا أن واحدا منا من بين ألف أو يزيد يملك ما يكفي من مال وخبرة تقنية فأي عبث هذا أكبر من أن يكدس الإنسان في بيته أجيالا متقادمة من الهواتف أو الحواسب المحمولة؟؟

وكثير من بسطاء الناس اليوم يتوقون إلى اقتناء شاشات تلفزيون مسطحة دقيقة وناعمة بدلا من التلفزيون التقليدي إياه (أبو الصندوق) الذي لا زال يتربع بثقله وكلكله وضوضائه على عرش كثير من البيوت، ولكن أنى لهم ذلك؟ ثم هل يمكن أن تتوقف شركات التصنيع التقني عن طرح جديدها الجذاب في يوم من الأيام...!!
ربما كان من عيوب الأجهزة التقنية أن بعضها يَجـُبُّ بعضا، وأنها صارت معرضا للتفاخر والتباهي ومظهرا من مظاهر التفاوت الطبقي والاجتماعي.

وإذن، فإن جزء مهما من أزمة حياتنا الافتراضية اليوم يكمن في هذه الغواية الافتراضية الآسرة المستعبدة لجيوبنا قبل أبصارنا وبصيرتنا. وإن شراهة الإقبال على حيازة الأجهزة التقنية المستحدثة متعددة الاستعمال بالقرض والتقسيط قد تحول إلى نوع من الإدمان عند كثير من الناس. وقد تعزز هذا الإدمان بالمخطط التسويقي الجهنمي الذي تمارسه كثير من شركات بيع التقنية للإيقاع بزبنائها بواسطة العروض المخادعة التي تخلب الألباب وتفرغ الجيوب. وقد يكفي هنا أن نشير إلى عائدات شركات الاتصال الهائلة من كلام الناس وثرثرتهم عبر أجهزة الاتصال المسموع والمرئي.
وأعجب ما في هذه الحياة أن يتحول مجرد الكلام بين الناس فبما ينفع ولا ينفع عند كبريات شركات الاتصال إلى فوائد وأرباح طائلة على كل دقيقة كلام أوثانية..!!

ولكن، هناك كثير من الناس قد اكتسبوا عادة زيارة متاجر الإلكترونيات مكتفين فقط بإشباع فضول عيونهم إلى معرفة جديد الأجهزة التقنية في وظائفها وألوانها وأحجامها المتضائلة في كل دورة من الدورات الإنتاجية، وإن كان بينهم وبين تلك الأجهزة أو امتلاك حق استعمالها خرط القتاد..

وربما كان ما تصافحه عيوننا اليوم وعلى مدار الساعة من مشاهد افتراضية على شاشات العرض الرقمية أكثر مما تراه من أشياء حقيقية في الطبيعة. وحتى إذا ما وقع نظر بعضنا على شجر أو حجر أو مطر أو سحاب فإن هذه المشاهد لن تصبح حقيقية في أذهان البعض إلا إذا صورت بكاميرا آلة رقمية أو هاتف محمول ليعاد تنسيقها وتشكيلها بشكل افتراضي قبل أن تبث من جديد على موقع خاص برفع الصور إلى السماوات الافتراضية المفتوحة...