السبت، 4 أكتوبر 2008

غواية افتراضية

العوالم الافتراضية دنيا أنثوية عجيبة جذابة مخملية، وقد وصلت سن البلوغ بسرعة مع أنها حديثة العهد والتكوين والنشأة.
وقد أصبح التطلع إلى سحر الشاشات الإلكترونية الفاتنة وملامسة لوحة مفاتيحها الرقمية بأزرارها الكثيرة المصفوفة عادة يومية مستحكمة لا يملك أكثر الناس منها مهربا أو فكاكا.
والمعروض الافتراضي المتاح على الدوام عبر نهر السليكون وجداوله كبير ومنوع يتطلب في كل يوم برمجة مبتكرة وأجهزة عرض مستحدثة تصنعها كبريات الشركات التقنية المتخصصة المتنافسة.

غير أن عمر الإنسان المحدود بالمكان والطاقة والصحة والمال لا يفي مع الأسف إلا بالاطلاع على نزر يسير فقط من ذلك المعروض الافتراضي الهائل، وفي الحدود الدنيا لما يملكه إنسان بسيط من خبرة فنية وبرامج وأجهزة تقنية قد تفي اليوم ولكنها قد لا تفي غدا بالغرض المطلوب منها لتصبح كحمار الشيخ الذي وقف في العقبة، أو سيارة متهالكة مفككة الأوصال أحيلت على سوق الخرذة.
ومن هنا كانت مأساة الإنسان الافتراضي اليوم فيما يفوته في كل يوم من حلقات افتراضية تتطلب تحيينا ذاتيا مستمرا للمعارف الافتراضية والخبرات التقنية للعرض والتنسيق والبرمجة. فأعقد ما في العوالم الافتراضية هو هذا التلازم الشديد بين المعروض الافتراضي ومستلزماته التقنية العديدة؛ ومن منا يقدر مثلا أن يلاحق كل صيحة جديدة مدوية في عوالم الهواتف النقالة والحواسب المحمولة؟ وحتى إذا افترضنا أن واحدا منا من بين ألف أو يزيد يملك ما يكفي من مال وخبرة تقنية فأي عبث هذا أكبر من أن يكدس الإنسان في بيته أجيالا متقادمة من الهواتف أو الحواسب المحمولة؟؟

وكثير من بسطاء الناس اليوم يتوقون إلى اقتناء شاشات تلفزيون مسطحة دقيقة وناعمة بدلا من التلفزيون التقليدي إياه (أبو الصندوق) الذي لا زال يتربع بثقله وكلكله وضوضائه على عرش كثير من البيوت، ولكن أنى لهم ذلك؟ ثم هل يمكن أن تتوقف شركات التصنيع التقني عن طرح جديدها الجذاب في يوم من الأيام...!!
ربما كان من عيوب الأجهزة التقنية أن بعضها يَجـُبُّ بعضا، وأنها صارت معرضا للتفاخر والتباهي ومظهرا من مظاهر التفاوت الطبقي والاجتماعي.

وإذن، فإن جزء مهما من أزمة حياتنا الافتراضية اليوم يكمن في هذه الغواية الافتراضية الآسرة المستعبدة لجيوبنا قبل أبصارنا وبصيرتنا. وإن شراهة الإقبال على حيازة الأجهزة التقنية المستحدثة متعددة الاستعمال بالقرض والتقسيط قد تحول إلى نوع من الإدمان عند كثير من الناس. وقد تعزز هذا الإدمان بالمخطط التسويقي الجهنمي الذي تمارسه كثير من شركات بيع التقنية للإيقاع بزبنائها بواسطة العروض المخادعة التي تخلب الألباب وتفرغ الجيوب. وقد يكفي هنا أن نشير إلى عائدات شركات الاتصال الهائلة من كلام الناس وثرثرتهم عبر أجهزة الاتصال المسموع والمرئي.
وأعجب ما في هذه الحياة أن يتحول مجرد الكلام بين الناس فبما ينفع ولا ينفع عند كبريات شركات الاتصال إلى فوائد وأرباح طائلة على كل دقيقة كلام أوثانية..!!

ولكن، هناك كثير من الناس قد اكتسبوا عادة زيارة متاجر الإلكترونيات مكتفين فقط بإشباع فضول عيونهم إلى معرفة جديد الأجهزة التقنية في وظائفها وألوانها وأحجامها المتضائلة في كل دورة من الدورات الإنتاجية، وإن كان بينهم وبين تلك الأجهزة أو امتلاك حق استعمالها خرط القتاد..

وربما كان ما تصافحه عيوننا اليوم وعلى مدار الساعة من مشاهد افتراضية على شاشات العرض الرقمية أكثر مما تراه من أشياء حقيقية في الطبيعة. وحتى إذا ما وقع نظر بعضنا على شجر أو حجر أو مطر أو سحاب فإن هذه المشاهد لن تصبح حقيقية في أذهان البعض إلا إذا صورت بكاميرا آلة رقمية أو هاتف محمول ليعاد تنسيقها وتشكيلها بشكل افتراضي قبل أن تبث من جديد على موقع خاص برفع الصور إلى السماوات الافتراضية المفتوحة...

ليست هناك تعليقات: