السبت، 11 أكتوبر 2008

صراع الحرف والصورة في حياتنا الافتراضية

كان الكلام شرودا يضيع بين الناس مع الزفير الذي ينفثونه، حتى اخترع له الإنسان الخط والحرف فكانا له وعاء حافظا وإطارا مانعا.

والمسافة الفاصلة بين الخطوط والحروف ومضمونها من الكلام هي نفسها المسافة الفاصلة بين مكنون الصور وظلالها وألوانها وأبعادها. فكل منها محتوى وقالب، وحامل ومحمول، وذكر وأنثى، وطالب ومطلوب.
وخلاصة العالم حرف مخطوط أو مرقون أصله فكرة، وزبدة العالم المتمخضة عن وفاق أو اختلاف مع المحيط صورة منمنمة أو ملتقطة أو مخلقة في رحم الكمبيوتر.
والعالم في رأس الإنسان كأنه صفحة مطوية داخل كتاب أو لوحة جدارية في مرسم، أو خصائص رقمية لا متناهية في دوائر الحاسوب الإلكترونية، ونقطا ضوئية دقيقة في شاشات العرض الافتراضية...
ولو كان العالم بالأبيض والأسود لأوجد له الإنسان الألوان حتما وضرورة، لقدرة الصورة العجيبة على اختزال ثرثرة الكلام.

وأنا في هذه المدونة التي أطلق منها كلماتي العابرة أقر بأني اخترت الانحياز إلى جانب الخط والحرف انتصارا لحق الكلمة في التعبير ومقاومة استعباد الصور. وأنا أعتذر عن زوار مدونتي إن كادت تخلو من الصور.
فنحن نعيش الآن عصر زحف الصور التي تغمرنا بطوفانها من كل جانب كطوفان الجراد والقمل والضفادع التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. والناس في عصرنا ينجذبون إلى وهج الصور وألوانها الزاهية في كل موقع افتراضي، ولو كانت صورا تفيض بالدم والفجور...
وما عدنا نقرأ العالم بعقولنا، وإنما نقرأه بحواسنا وغرائزنا. وحدها الصور كفيلة بذلك ، وهي أقدر من أي سلطة كلام على اختزال تفاصيل المشهد كله في أقل من لمح بالبصر أو بعدسة الكاميرا السحرية.

ولا شك أن التقنية الحديثة أضحت مسعفة أكثر من أي وقت مضى لإنتاج الصور على اختلاف أشكالها وأحجامها ووظائفها، مع إمكانية استنساخها وتعميمها على أوسع نطاق في اللحظة والتو. ويعمل خبراء التقنية على مدار الساعة على تطوير آخر الصيحات المبتكرة في هذا المجال.
ولا يملك الإنسان إلا أن يندهش من هذا التطور المذهل الذي حصل على مستوى ترسيخ عادة تواصل الإنسان الحديث بالصور عبر الدعاية والإشهار، وعبر تيسير تطبيقاتها واستعمالاتها المختلفة من خلال أجهزة العرض والاستقبال المتنوعة التي استعبدت عقل الإنسان وقللت انتباهه وتركيزه على ذاته ومحيطه.

لقد صار العالم الافتراضي لبهاء صوره أشبه بالحلم اللذيذ الذي لا يريد أي واحد منا أن يصحو منه، إلا إذا هده تعب الإبحار في محيط النت العظيم، أو إذا عزل التيار الكهربائي عن حاسوبه وهاتفه، أو فقدت حرارة الاتصال من الأسلاك والخيوط المتصلة ومن أثير السماء المفتوحة.
وحتى الهاتف النقال الذي ابتكر أول الأمر لتيسير تواصل الناس عن بعد بالكلام أصبحت معظم تطبيقاته الأولى متجاوزة بعد أن ركبت له عدسة وشاشة موصولة بالعالم لتـَرى وتـُرى.
وتوفر شركات صنع أجهزة الاتصال الحديثة مواصفات جمالية من حيث سطحها الأملس الشفاف وانسيابية الشكل مع التناسق التام بين الإطار وشاشة العرض وأماكن وضع الأزرار. فهي، وإن كانت في وضعية إيقاف التشغيل، تظل تمارس سحرها في صمت تام، لتحرك في الإنسان الشهوة إلى ملامستها ومداعبة أزرارها بالأنامل كأنها تضاريس أنثى بضة ناعمة في مقتبل عمرها الريان الفتان.

ربما يدرك المعلم أو الأستاذ، وهو يمارس لعبة التلقين بالكلام أن مستوى التعبير عند تلاميذه أو طلابه قد كاد يتحول إلى حشرجة وأن الكلام يضيق عليهم ولا يكاد يبين، إلا إذا فتح جهاز هاتفه أو حاسوبه المحملين واطلع على ما فيهما من نقوش وأبجديات الصور ... !!
فهل نعيش في هذا العصر الافتراضي الجديد البوادر الأولى لاحتضار اللسان وموت لغة الكلام... !!

ليست هناك تعليقات: