الجمعة، 24 أكتوبر 2008

محاضن التدوين العربي؛ الورقة الأولى

لم يكن بوسع التدوين العربي أن يأخذ حظه الكامل والوافي من الانتشار في بحر الإنترنت المتقلب في مده وجزره لولا محاضن التدوين الكثيرة.
ولفظة (المحاضن) تتضمن إشارة مرجعية إلى الخـُم الطبيعي أو بيوت الدجاج الطينية أو الإسمنتية أو البلاستيكية أو الاصطناعية الحرارية حيث يتم تفريخ وتكثير الكتاكيت بالجملة حتى تكبر وتصبح جاهزة للذبح والاستهلاك العمومي داخل البيوت أو في المطاعم.
فبين محضن الدجاج ومحضن التدوين علاقة مشابهة ومماثلة على هذا الأساس فقط أي: أساس وظيفة التوليد والتكثير، ولا ينبغي أن يذهب ظن أحد القراء الأعزاء بعيدا فيتوهم أني أشبه المدونين العرب بسلالة الدجاج التي قد لا تملك من أمرها شيئا غير الصراخ والقوقأة. وإن كان هناك من بعض أشباه المدونين من إذا وزن حِلمُه رجح عليه عقل أصغر كتكوت منسجم مع شكله ووزنه ومع عادات وتصرفات سربه الغريزية التي أودعها الله فيه منذ النشأة الأولى التي لا يعلم مـُبتدأها البعيد غيره عز وجل....
وإن نظرة سريعة على بعض محاضن التدوين العربي الشهيرة ك (مكتوب) أو(جيران) أو(مدونتي) بالإضافة إلى محاضن التدوين الغربية التي تدعم اللغة العربية ك (ورد بريس) أو (البلوغر) أو (بلوغ سبيريت)... وغيرها كثير تعطينا إشارات قوية على ارتفاع مهول في عدد المدونين المنتسبين إليها بالجملة والتقسيط.
ومن يتأمل هذا الحشد الهائل من المدونين العرب المنتسبين إلى هذا المحضن أو ذاك يخيل إليه أن موسم الهجرة العربية إلى عوالم التدوين قد بلغ الغاية والنهاية التي لا مزيد عليها، وإن كان منطق عمل البيئة الافتراضية يأبى إلا أن يسع الجميع..
إن درجة الامتلاء الافتراضي العالية التي أصبحت عليها محاضن التدوين العربي إلى حدود يوم كتابة هذه السطور تشبه حقينة سد عال بلغت حدا معقولا من الامتلاء والارتواء. وهي تتيح للباحث والمتتبع لظاهرة التدوين العربي مادة غزيرة للبحث والمقارنة، ولدراسة النماذج البشرية ولأنماط السلوك، ولطرق الاشتغال المختلفة التي تتحكم في عقل كل مدون عربي على حدة، وذلك عندما يفكر أو يكتب أو يعبر بكلمة أو بصورة ثابتة أو متحركة أو حتى بأيقونة..
وبعض قدماء المدونين العرب المنتسبين الذين التحقوا بمحاضن التدوين على مكتوب أو جيران بقوا أوفياء ملتزمين ومتمسكين بمواقعهم الأولى التي احتلوها في هذا المحضن أو ذاك، ولا زالوا إلى حدود هذه الساعة يواظبون على إرسال جديد إدراجاتهم دون انقطاع.
وأنا واحد من هؤلاء؛ فقد مضى على التحاقي بمحضن (مكتوب) ما يناهز ثلاث سنوات، ولم تراودني في أي يوم من الأيام فكرة حجز أو استئجار نطاق خاص بي مع أن كثيرا من الزملاء أشاروا علي بترك التدوين المنتسب والاستقلال بموقع شخصي مستقل عن ضغوط التدوين المنتسب وإكراهاته.
إن التدوين المنتسب أشبه ما يكون بالسكن في الحارة والحومة ففيه من الألفة، وفيه من المودة، وفيه من لذيذ العيش المشترك ما لا يشوش عليه إلا الزعران والأوباش بحركاتهم الطائشة عندما يتحرشون بغيرهم من الناس عبر المعاكسات والتعليقات البذيئة...

وقد يشعر بعض المدونين المنتسبين الأصلاء أن جهودهم الطيبة في التدوين يمكن أن تضيع، كما يمكن أن تضيع أصواتهم في موجة الازدحام العام في سوق عمومي أو في ملعب كبير لكرة القدم غاص بالمتفرجين المتعصبين لهذا الفريق أو ذاك فهم يصرخون في كل اتجاه، وأنه مهما كان مبلغ هؤلاء المدونين من الإبداع في حقل التدوين الجاد فإن الفضل الأول يبقى للدار الافتراضية المستضيفة أو للموقع المحتضن.
وفي هذا ما فيه من الإجحاف بالحقوق المادية والمعنوية لفئة من المدونين الجادين المقاومين لدوائر العزلة العصيبة في صمت؛ فقد جرت العادة أن تتنصل المواقع المحتضنة من كل التزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه المدونين، كما تنص على ذلك عبارة إبراء الذمة الموجودة أسفل كل مدونة منتسبة، وكأنهم مخلوقات هلامية لا تقدم ولا تؤخر شيئا في حركة الحياة، أو كائنات بشرية من الدرجة الثانية لم تبلغ سن الرشد، رغم أنهم يسجنون ويقبض عليهم كغبرهم من البالغين ومن الكتاب والصحافيين والفنانين ذوي الرأي المعارض الذين يشار إليهم بالبنان، أو ممن يسبحون ضد التيار؛ فكم من مدونة قد حجبت، وكم من مدونة قد شطبت وأصبحت أثرا بعد عين، وأخرى قد أغلقت بشمع السلطة الأحمر حتى إشعار آخر. فأي تناقض أغرب من هذا عندما تـُمنع لكي لا تـُعطى، وعندما تـُعطي لا يـُعترف لك بذلك، ولا تنال الحد الأدنى من المقابل المحفز، أو من خميرة العطاء المتواصل..!!

إن مفهوم كلمة (مدون) لازال غامضا وملتبسا ولا نعثر له على تعريف دقيق بخلاف كلمة (مدونة) مثلا، ولم تمتلك كلمة مدون بَعدُ بُعْدها القوي الفعلي في نفس المدون وفي محيطه كما هو الحال بالنسبة لكلمة كاتب أو روائي أو شاعر أو صحافي أو فنان أو ما شئت من الأسماء والألقاب والنعوت الإيجابية المعترفة بفضل صاحبها وأثره ؛ أثر يكون له وقع مادي ومعنوي ممتد في حياة صاحبه وحتى بعد مماته. فماذا يكسب معظم المدونين من تدوينهم غير حرق الأعصاب وإهدار الجهد في التفكير والتعبير والتنسيق؟!!.

وأنا أستثني ثلة من المدونين التقنيين المحترفين الذين يعرفون من أين يؤكل لحم الكتف ليربحوا ويغنموا من نشاطهم التدويني التقني في الغالب؛ وذلك عبر ربط علاقات شراكة نفعية مع شركات ومواقع يكون لهم منها كثير من الربح المعنوي ومن الشهرة في أوساط المدونين والقراء والزوار العابرين بمواقعهم ومدوناتهم، وقليل من الريع المادي العائد مقابل خدماتهم التقنية في التصميم والبرمجة والدعاية التسويقية.

ومع كل هذا وذاك، أدرك وأعي تماما أن قيمة المدون الحقيقي تكمن فيما يتقنه أو يحسنه في هذا الفن التدويني أو ذاك، سواء في مدونة مستقلة أو في مدونة منتسبة.

ليست هناك تعليقات: