الجمعة، 28 مارس 2008

اعتزال التدوين؛ بين الرغبة والإكراه

بدأت عدوى الاعتزال والانسحاب التدريجي من معترك التدوين تنتشر في أوساط المدونين العرب في هذه الأيام مما يطرح أسئلة مقلقة حول أفق التدوين العربي ومستقبله.

ويقدم المعتزلون والمنسحبون ذرائع شتى لتبرير مغادرتهم لمنصة التدوين بأقل الأضرار والخسائر المعنوية والنفسية الممكنة، معتقدين أن تعليق تلك الذرائع أو بيانات الانسحاب على واجهة المدونة قبل التواري عن الأنظار والاختفاء التام كاف لإبراء ذمتهم تجاه آلاف الزوار والقراء الذين عبروا حدود مدونتهم الافتراضية وشاطروهم ملح وخبز الكتابة الافتراضية من خلال الإطراء والتعليق والمتابعة الوفية، أو حتى من خلال التنويه والتحية.

ففي مجال الكتابة الافتراضية تصبح المصافحة الفكرية بين المدونين أنفسهم وقرائهم المتباعدين في المكان أهم من تشابك الأيدي، لو قدر لهم أن يلتقوا في مكان ما على أرض الواقع ويتصافحوا فيما بينهم مصافحة يدوية عادية.

إن العلاقة الافتراضية بين المدون ومحيطه الافتراضي تكبر في نفسه كل يوم وتولد لديه مزيدا من الحوافز والمثيرات التي تضغط على عقله ونفسه وإحساسه فتجعله يستشعر قيمة الوفاء والعطاء المستمر وصدق الالتزام وحب المسؤولية فيما يكتبه أو يعرضه على صفحات مدونته.

صحيح أن قرار فتح مدونة اختيار شخصي، كما أن قرار الكتابة فيها بوتيرة مستمرة أو متراخية أو متقطعة اختيار شخصي أيضا، كما أن أمر إيقاف المدونة عند سقف محدد من الموضوعات أو عدد معين من الإدراجات شأن خاص أيضا، بل وحتى قرار شطب أي مدونة من الوجود الافتراضي يبقى متوقفا في الأحوال العادية على اختيار صاحبها ما لم تتعرض إلى مصادرة أو حجب أو أعطاب تقنية قاتلة، خاصة وأن أمر الشطب النهائي لا يتطلب غير ضغطة زر واحدة فتنسف المدونة التي بنيت دعائمها على مدار الأعوام الطوال من أساسها نسفا لا يبقى لها أثرا ولا خبرا. وكم تضيع عشرات المدونات في كل يوم بسبب ضغطة بلهاء لاإرادية أو بسبب ثورة اليأس والإحباط والغضب..!!

وما أخشاه بعد انتشار عدوى الانسحاب أن تنتقل العدوى إلى شطب المدونات أيضا. وأي انسحاب لمدون جاد وأي شطب لمدونة رزينة فإنه يترك وراءه فراغا لن يملأ إلا بالغثاء والطفيليات الافتراضية التي تلتهم في كل يوم مزيدا من المساحات الافتراضية الخضراء التي يتعهدها أصحابها ما وسعهم الوقت والجهد بالتشذيب والتهذيب واستقطار ماء الفكر ورحيق الروح في زمن أصيب فيه الناس من حولنا بالقحط والإسفاف والضحالة.

وربما من هنا تولدت الرغبة لدى بعض الغيورين المتابعين لشأن التدوين العربي في تحويل بعض المدونات المتميزة إلى منشورات ورقية للتعريف بها على أوسع نطاق من جهة، وحفظها من الضياع من جهة أخرى.

وأنا هنا أيضا لا أستطيع أن أنكر على نفسي ما ينتابني بعض الأحيان من الشك والإحباط حول جدوى التدوين العربي برمته؛ فأنا كبقية الإخوة المدونين باللغة العربية أجد نفسي أنني أكتب من موقع غير مريح بسبب ما تراكم على واقعنا العربي في هذه العقود الأخيرة من أحزان وأشجان، وخاصة في هذه السنة الجارية التي شهدت ولا زالت تشهد منتهى التصدعات والتمزقات التي يمكن أن تحل بعقل المواطن العربي وجسمه وجيبه.

وكل تلك التمزقات تلقي بظلالها القاتمة الخفية على نفس المدون العربي الجاد فتخرسه ولا يستطيع أن يخرج كلمات البوح العالقة في بلعومه إلا بشق الأنفس. بل قد يمضي الواحد منا الأيام الطوال مذهولا متألما متأملا في هذا المشهد ولا يستطيع أن ينبس ببنت شفة، ليتحول الصمت كما الانسحاب إلى شكل من أشكال الاحتجاج.

وكل هذا يسرق الفرحة من المدونين العرب عامة ويحرمهم متعة الكتابة في الأوضاع المريحة، كما بقية كتاب ومدوني دول العالم المتحضر التي استطاعت أن تقفز إلى الضفة الأخرى وأن تحيى في حكم الوقت حرية وحقوقا ومسؤولية وكرامة.

الأربعاء، 19 مارس 2008

مسلك المدونين في وضع العناوين؛ الورقة الثانية

الورقة الثانية : العنوان مبدأ تنظيمي أم وسيلة للغواية والإثارة؟

التدوين الإلكتروني أو الافتراضي هو، في الأصل، بنية تقنية ترميزية شديدة التعقيد والتنظيم. والعنونة جزء أساسي من هندسة تلك البنية؛ فلا يمكن أن نتصور مدونة في شكل كتلة واحدة تتكدس عندها الخطوط والأرقام والصور والألوان والظلال دون وجود عناوين فاصلة بين أجزائها ومكوناتها الأفقية والعمودية؛ فالمدونة تكتسب مرونتها وحيويتها من عناوينها الملائمة لتوجه المدون وثقافته واختياراته وقناعاته وتمثلاته للواقع والأحداث والأشياء المحيطة به.

وتلك العناوين بالنسبة للمدونة كالمفاصل بالنسبة لجسم الإنسان لأنها هي التي تكسبه القدرة على الحركة والمناورة إن أراد الوقوف أو الجلوس أو الانحناء أو التمدد أو الانعطاف. ولولا تلك المفاصل العجيبة في جسمنا لبدونا كقطع معدنية أو كتل إسمنتية جامدة أو أعمدة خشبية قاسية.

وعناوين المدونة الرئيسية والفرعية التي موادها من كلام تصبح لها نفس وظيفة المفاصل التي تكون موادها من عظام، مما يقوي من مرونة عمل التدوين وحيوته وتجدده واتصاله مع بعضه البعض عبر تلك العناوين التي سرعان ما تتحول في البيئة الافتراضية إلى إحالات مرجعية وروابط تشعيبية وأزرار للتحكم. فعند الضغط عليها بمؤشر الفأرة ينكشف ما تحتها من المضامين والصور والإعلانات والبلاغات والخطب والرسائل والرموز والإشارات التفاعلية، وهذا ما يستحيل أن يتوفر في عالم القراءة الورقية.

كما أن هذه العناوين تتحول إلى عنصر جذب رئيسي سواء بالنسبة لمحركات البحث التي تقوم بفهرسة دورية أو روتينية للمدونات والمواقع لعرض آخر العناوين التي قذف بها في وادي السليكون، أو بالنسبة للزوار والقراء الافتراضيين الذين اعتادوا زيارة مواقع أو مدونات معينة أو الذين يعبرون منها بين الفينة والأخرى لمجرد الفضول أو الصدفة.

ومن هؤلاء العابرين بالصدفة من يطيل المكوث عند هذه المدونة أو تلك إلى درجة الاعتياد والألفة إذا اكتشف صدق العناوين التي قادته إليها ومطابقتها لما تحتها من سياقات أو مضامين، ولما توفره من متعة، وخاصة عندما تقترن تلك المتعة بالفائدة؛ وقد سبق لنا في بعض الإدراجات أن تحدثنا عن جاذبية العناوين والموضوعات ذات الحساسية الجنسية أو الحساسية السياسية أو هما معا في عالمنا الافتراضي الكوني عموما والعربي خصوصا.

ولكن، بما أن الكتابة الافتراضية محكومة بالضبط التلقائي للوقت الذي أرسلت فيه على الشبكة العنكبوتية بالدقيقة والثانية، فإن العناوين الجديدة تطغى دائما على العناوين القديمة فتبعدها تدريجيا حتى تختفي تماما من الواجهة الأمامية للموقع أو المدونة. مما يحعل وضع العناوين في المدونة أو الموقع كوضع عناوين شريط الأخبار التلفزيوني عندما يطرد بعضها بعضا ويمحو بعضها بعضا حسب منطق ونسق تعاقب الأحداث وما يطرأ على أرض الواقع في كل يوم أوساعة من مستجدات ومتغيرات.

ومن هنا يمكن أن نقول: إن نظام القراءة الافتراضية نظام مغشوش لأنه يتجه دائما صوب الأعلى لا صوب الأدنى وصوب الظاهر على سطح المدونة أو الموقع لا إلى ما وراء ذلك من الصفحات المطوية. وبعبارة أخرى فعيون القراء الافتراضيين تتجه دوما صوب الجديد لا صوب القديم. لأن مبدأ الطراوة هو المبدأ المعمول به في سوق القراءة الافتراضية كما أشرنا إلى ذلك سابقا. تماما كما في الأسواق التجارية العادية حيث تكون أنظار الزبناء مركزة على تاريخ الإنتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية.

وهكذا تبقى كثير من العناوين البعيدة بما تحتها من مواضيع مترسبة في قعر المدونة العميق حتى تجذبها محركات البحث مرة أخرى عبر كلمات البحث المفتاحية التي يمكن أن نشبهها بالطعم الذي يعلقه الصياد في الصنارة لأثارة الأسماك وجذبها من قعر البحر إلى سطحه؛ وهكذا فما أن يدخل أحدنا كلمة مفتاحية في خانة البحث لمحرك كوكل أو غيره حتى تنجذب أعداد هائلة من العناوين الشاردة والمترسبة في قعر بحر الأنترنت العميق.

ومع أن نتائج البحث عبر المحركات الافتراضية يمكن أن تكون مذهلة ومفيدة أحيانا، فإنها كثيرا ما تكون محبـِطة ومخيبة للآمال أحيانا أخرى؛ فقد يرخي الواحد منا شباك بحثه فلا يظفر في النهاية إلا بنزر يسير لا يسمن ولا يغني من جوع لكثرة ما يعلق بمحركات البحث من زوائد وطحالب وغثاء.

فلا زالت محركات البحث تبني على علاقة المشابهة اللفظية والخطية العشوائية بين مواد البحث وعناوين الموضوعات المطلوبة للقراءة، مما يوقع الباحث الافتراضي في حيرة كبيرة من أمره، وخاصة عندما تختلط نتائج البحث عليه ويتراكم بعضها على بعض على امتداد عشرات الصفحات التي ينفد معها الصبر عند التقليب ولا تنفد.

وأعتقد كما يعتقد غيري ممن يهمهم أمر البحث عن العناوين الصحيحة المجدية في هذا العالم الافتراضي الفسيح أنه لن تحل هذه المشكلة تقنيا في الأمد القريب أو البعيد إلا إذا تعلمت أجهزة الحاسبات وبرامجها اللوغرتمية المعقدة من الإنسان كيف تفهم وتفكر قبل أن تجيب عن عناوين البحث الطلوبة بعشوائية وسطحية.

ورغم أن معظم المدونات والمواقع تتوفر على أرشيف جانبي للعناوين حسب النمط الأبجدي أو أوحسب التاريخ الذي أرسلت فيه الإدراجات، كما أن كثيرا منها يتوفر على محرك بحث مخصص داخل الموقع أو المدونة لتيسير الوصول إلى المواد والعناوين المطلوبة، فإن كثيرا من القراء الافتراضيين لا يلقون بالا إلى الهوامش والإشارات الجانبية المساعدة على التوجيه. ومن هنا يلجأ بعض المدونين إلى تثبيت بعض الإدراجات أو بعض العناوين على رأس الصفحة الأولى من المدونة لجلب الفضول وإثارة الانتباه حتى لو تطاول عليها أمد التاريخ، مما يوحي بأن العنوان قد تحول عن أهدافه التنظيمية المفصلية التي تحدثنا عنها في بداية هذا الإدراج، وأنه قد أصبح لدى فئة من المدونين والكتاب الافتراضيين وسيلة للخداع والتضليل للفوز بأكبر عدد ممكن من التعليقات والزيارات.

الجمعة، 14 مارس 2008

مسلك المدونين في وضع العناوين؛ الورقة الأولى

من يطالع عناوين المصنفات والكتب التراثية العربية القديمة، على اختلاف تخصصاتها الدينية والشرعية والعلمية والأدبية، يلمح مدى حرص أسلافنا عند الكتابة والتأليف على وضع العنوان المناسب في المكان المناسب.

وبما أن العنوان هو أول ما يطالع القارئ فقد أوجبوا على أنفسهم العناية الشديدة به، واشترطوا مطابقته لمضمون الكتاب قدر الإمكان، كما أظهروا عناية خاصة بتنسيقه وتنميقه وإخراجه حتى يثير فضول القراء ويجلب انتباههم ويلوي أعناقهم. وقديما قيل: ( يقرأ الكتاب من عنوانه)، وقيل أيضا: ( علامة الدار على باب الدار).

ولكن، كثيرا ما نصاب بالخيبة عندما ندخل بيوتا يكون ظاهرها غير باطنها، أو عندما نكتشف أن العناوين التي أغرتنا ببريقها ودفعتنا إلى شراء كتاب وتصفح موقع أو مدونة قد بنيت على الغش والخداع والتضليل الذي لا يُجني منه غير الفراغ المزوج بالحسرة والخيبة على ما ضيعناه من الوقت والجهد عند التصفح والقراءة، (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) سورة النور/ آية 39.

وليس العنوان في دلالته العامة إلا اختصارا مصغرا ومركزا للتفاصيل الكبيرة التي تكمن خلفه في صفحة أو في مجلدة أو في موقع أو في مدونة، وكما هو الحال أيضا في كل قصة أو مسرحية أو مسلسل درامي أو حتى في شريط أخبار منسدل أسفل الشاشة. إنه النواة الصغيرة التي تتأصل منها الشجرة الكبيرة، وومظة البرق السريع الخاطف الذي يسبق تدفق الغيوم المنهمرة.

أما قصائد الشعر العربي القديمة التي خلت من العناوين فقد كان بيتها الأول لها بمثابة العنوان. وكان الشعراء يعتبرون افتتاحية القصائد كالمفتاح بالنسبة لكل الأبواب الموصدة؛ فإذا وقع هذا المفتاح السحري العجيب بيد الشاعر تحرر من عقاله وانطلق يعدو في رحاب القول والإبداع بكل طلاقة وعفوية وحرية.

وأما إذا بدأ الشاعر قصيدته من غير افتتاحية مناسبة فإن ذلك يعتبر هجوما غير لطيف على الموضوع؛ كمن يعمد إلى اقتحام بيوت الناس من غير استئذان: إما بكسر الأقفال وفض الأختام وإما بقلع الأبواب وهدم الحيطان أو نسف البيوت من الأساس عنوة وغصبا، كما فعلت أمريكا في العراق عندما محت كثيرا من العناوين الحضارية والتراثية التليدة لهذا البلد المستباح.

وكل واحد منا اليوم في واقع هذه الحياة الافتراضية الجديدة يسعى غاية جهده ليظهر بضاعته التدوينية وخبرته المعرفية والتقنية عند أحد منعطفات الطرق الرقمية السيارة.

وقد غدت المدونات الإلكترونية بمثابة تلك الحوانيت المصفوفة بزخرفها وتلألئها من الخارج، وبضائعها المكدسة على بعضها البعض في الداخل. لكن، ليس على الرصيف الأيمن أو الأيسر من الإسفلت وإنما على طول تلك المسارات الرقمية العالمية المتشابكة.

والقراء والزوار الافتراضيون هم من يعبرون جيئة وذهابا تلك الشوارع الافتراضية العجيبة المتوهجة أيضا بالأضواء والألوان والشعارات والوسوم والممتدة بلا بداية ولا نهاية. وكل واحد منهم يقتفي أثرا لعنوان ما يفتح له إمكانية الجواب عن سؤال أو الوصول إلى هدف إو إلى فهم رأي أو قضية. ومنهم من جاء ليقطف ويملأ السلال، ومنهم من جاء للنزهة العابرة والتملي بطلعة عناوين المدونات وسحنة المدونين البهية وغير البهية.

وعلى العموم يمكن أن نعتبر عناوين المدونات العربية من أهم المداخل الأساسية أيضا لمعرفة وقراءة واقع المدونات العربية من عناوينها الدالة أو غير الدالة، الصحيحة والزائفة.

وإذا فما هو مسلك المدونين في وضع العناوين؛ سواء تعلق الأمر بأسماء المدونات نفسها لحظة ولادتها من رحم فكر صاحبها، أو بعناوين تصنيفاها الجانبية ومحتوياتها الداخلية، وهل يستند المدونون في ذلك إلى خطة مرسومة وترتيب محدد أم أن الأمر متروك لمزاجهم المتقلب ولمحض الصدفة. هذا هو موضوع الورقة الموالية، أما هذا الإدراج فلم يكن إلا إشارات أولية.
———–
إدراجات ذات صلة:
التدوين العربي بين الخفاء والتجلي

الأربعاء، 12 مارس 2008

حديث الجوطية

لا أعلم بالضبط متى دخلت كلمة (الجوطية) إلى اللسان المغربي الدارج. ولعل بناءها اللفظي والصوتي منحوت من كلمة (jeté) الفرنسية، على غرار كثير من الكلمات التي يستعملها المغاربة في حياتهم اليومية في وصف الأشخاص والأماكن مثل كلمة (الزوفري) التي نحتت من كلمة: (ouvrier) بعد أن شحنت بدلالات قدحية، ومثل اسم (بتيجة) الذي أطلق على مدينة سيدي قاسم. وقد نُحت من كلمتين فرنسيتين هما (petit ) و(gent)، ومثل وصف بعض تصرفات البشر المشينة بطريقة رمزية كما توحي بذلك كلمة: (الفيراج) عندما ركبت بطريقة فنية مسجوعة في التعبير المغربي الشائع الذي يجرى مجرى الأمثال: ( الله ينجيك من الحاج والعجاج والفيراج)، فاحتفظت بدلالتها الأولى لكلمة:(virage) ، من غير إضافة أو انزياح عن المعنى الأصلي لها في اللغة الفرنسية، وبما يفيد توخي الحذر من بعض الحجاج الذين لا تردعهم زيارة مناسك الحج المشرفة عن فعل المنكرات واقتراف المحرمات، تماما كما يجدر بسائق السيارة عندما يقترب من أحد المنعرجات الحادة التي تنعطف يمينا أو يسارا.

وقد يطول بنا الحديث لو حاولنا استعراض كل الكلمات والاشتقاقات اللغوية الفرنسية التي انصهرت في اللسان المغربي الدارج منذ أن فـُرض نظام الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912 حتى يومنا هذا، وقد اكتفينا بهذه الأمثلة التوضيحية فقط حتى لا نخرج عن النطاق الذي رسمناه لهذا الإدراج.

أما كلمة (الجوطية) التي جعلناها محور هذا الإدراج فتعني عند المغاربة تلك الأمكنة الهامشية التي يباع فيها كل ما هو عتيق ومستعمل. سواء تعلق الأمر بالمستعمل المحلي أو المستورد.

وإذا كانت كلمة (jeté) في الفرنسية تعني المتروك والمهمل والمُبعد، فإن كلمة (الجوطية) تعني في قاموس المغاربة اليومي عكس ذلك تماما؛ إذ المقصود منها هو إعادة كل ما هو مهمل ومقذوف به بعيدا أو حتى في القمامات والأزبال إلى دورة الحياة والإنتاج مرة ثانية أو ثالثة حتى يفنى أو تنقطع الفائدة من استعماله تماما.
ففي مغرب التهميش والهشاشة لا تستهلك الأشياء طبقا لمنطق الصلاحية والرفاهية وإنما لمنطق الضرورة والحاجة الملحة.

ومع أن كل بلدان العالم لها (جوطيتها) الخاصة، فإن (جوطية) المغاربة يمكن أن تعتبر (جوطية) كل (جوطيات) العالم. ففيها من كل لون من ألوان القمامة العالمية فن وطرف.

ولعمال المهجر المغاربة (الفاكانس) الذين يعودون إلى مغربهم في عطلة الصيف وفي المناسبات الدينية والعائلية نصيب وافر في ترويج نشاط (الجوطية) التجاري بما يجلبونه معهم من الخردة البالية. وبعضهم يقتني سيارات (الترافيك) الكبيرة عند العودة خصيصا حتى يتمكن من جلب أكبر قدر ممكن من الخردوات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقطع الأثاث المفكك ومحركات السيارات البالية والدراجات النارية والعادية فضلا عن الغسالات البالية و كشكول الأواني المنزلية من الصحون والكؤوس والشوك والملاعق وغير ذلك مما لا يعد كما وكيفا.

وإذا كنت من هواة جمع القناني الفارغة مثلا، فإن (الجوطية ) المغربية تقدم لك مستودعا ضخما لا ينفد من القناني المختلفة المنوعة في أشكالها وألوانها وأحجامها. وقس على هذا المنوال ما شئت من القطع والأجزاء والعناصر المستعملة المتبقية مما أصله ثوب أو خشب أو بلاستيك أو حديد أو نحاس.

ولم تبق (الجوطية) المغربية بعيدا عن ركب الحضارة التكنلوجية الرقمية، بل سايرت إيقاعها السريع، وأصبحت مكبا لكل نفايات الأقراص المدمجة والشرائح الإلكترونية المفككة ولآخر صيحة من صيحات الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة. وعند (جوطية) درب غلف بالبيضاء المشهورة عالميا في القرصنة التقنية الخبر القين.

وحتى بعض الأجانب الذين استوطنوا مدن المغرب بكثرة في السنوات الأخيرة بدأت تنمو لديهم عادة ارتياد( الجوطية) على غرار فقراء المغرب المكتوون بنار الغلاء في هذه الأيام، ولكنهم لا يبحثون بين أكوام الخردة عن برغي أو مسمار أو صفيحة قصدير، وإنما عن بعض التحف النادرة المطمورة في ثنايا أكوام (الجوطية) التي قد لا تقدر بثمن.

السبت، 8 مارس 2008

بعض تداعيات اليوم العالمي للمرأة

ثامن مارس هو اليوم العالمي الموعود من كل عام للاحتفال بعيد المرأة.
وفي هذا اليوم فقط من بين سائر الأيام كلها يطغى خطاب التأنيث قليلا أو كثيرا في وسائل إعلامنا العربية، كل بلد عربي حسب درجة فحولته اللغوية ومبلغ حصانته الفكرية الذكورية ضد تاء التأنيث ونون النسوة.

المهم أن تاء التأنيث تحضر بقوة في هذا اليوم في بلدنا المغرب، على غير العادة، سواء في المنابر الخطابية أو في الملتقيات النسوية أو عبر الشاشات والجرائد والصحف المستقلة أو الحزبية. ويشعر المرء وكأن الرجال قد أزيحوا من الواجهة لبعض الوقت أو كأنهم قد أجبروا على الرجوع إلى آخر الصف في نوع من الحياد والصمت الذي يسبق هبوب العاصفة. وإن كنت لا أعلم بالضبط طبيعة نوايا الرجل العربي الحقيقية حيال هذا الاحتفال؛ أهو فعلا إقرار واعتراف، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مجاملة واستلطاف؟.

وتذكرت في هذه اللحظة التي استبعد فيها الرجال من دوائر هذا الاحتفال في هذا اليوم الاستثنائي كيف كانت نساء قريتنا يتحايلن على أطفالهن الذكور لإبعادهم وإقصائهم عن مجالسهن الحميمية الخاصة عندما كن يلتقين عند الطاحونة، أو عند عين الماء الجارية حيث يتزودن بالماء وينظفن الملابس، أو عند رجوعهن من السوق الأسبوعي بعد أن يلتقطن بأجهزة الرصد الغريزية لديهن جديد أخبار السوق قبل أن يعدن إخراجها وبثها في أنحاء القرية بشكل جذاب مختلف مرة ثانية.

وقد انطلقت في ربوع بلدنا السعيد بهذه المناسبة أسوة ببقية دول العالم المتحضر الأمسيات والحفلات والسهرات المعدة من طرف النساء والمحجوزة لهن خصيصا. ويتوج مشهد الاحتفال في قناتنا الثانية كما في كل عام بتوزيع (الخميسة) على عينة من النساء المتوجات كرائدات ومكافحات في مجال من مجالات الأنشطة النسوية الجماعية، حتى لو تعلق الأمر أحيانا بتربية قطيع الماعز أو استخراج زيت اللوز أو أركان بالطريقة العصرية وبالتلفيف الناعم المتحضر.

مع العلم أن هناك في كثير من القرى المغربية النائية نساء أضعن عمرهن كله في جني غلال البرتقال والزيتون في ضيعات الإقطاعيين أو الجري وراء قطعان الماشية في العراء والبرية حتى تيبست أجسادهن بحرارة الشمس وحفرت في وجناتهن المتجعدة قبل الأوان أخاديد البؤس والشقاء العميقة.

و(الخميسة) عبارة عن مجسم صغير صنع على هيأة كف بالأصابع الخمسة المبسوطة وبلون ذهبي، ربما درء للعين وتجنبا لحسد وكيد الرجال.

وقد ذكرتني تلك (الخميسة) الذهبية بالخميسة البلاستيكية التي يعلقها سائقو شاحنات نقل البضائع والحيوانات والبشر ببلادنا داخل مقصورة القيادة ليس احتفاء باليوم العالمي للمرأة المزعوم، وإنما فقط تيمنا بالبركة وتعلقا بحبال النجاة والسلامة. وقد كتب عليها دعاء الركوب، وآية الكرسي وتتوسطها عين واحدة مفتوحة. ربما اختصارا لعبارة (عين الحسود فيها عود )، أو ربما تكون رمزا لعناية الله التي ترعانا من فوق سبع سماوات.

لكن، هناك ملايين النساء في مغربنا وفي العالم أجمع قد لا يعني لهن هذا اليوم شيئا في قاموس حياتهن اليومي الذي يكدحن فيه كدحا دون أن يشعر بهن أحد…. و كم من الأشياء التي نأكلها أو نستهلكها في حياتنا العادية فيها أكثر من لمسة أنثوية خفية…!!

وحتى أحداث غزة الأليمة قد تحولت ببركة هذا اليوم السعيد فجأة إلى يوم لنصرة المرأة الفلسطينية. وهي الثكلى المفجوعة في كل وقت والحاضن الطبيعي لروح المقاومة في تفان وصمت… !!

الخميس، 6 مارس 2008

الأحد، 2 مارس 2008

ضربني وبكى، سبقني واشتكى

هذا المثل الذي جعلناه عنوانا لهذا الإدراج خير تعبير يمكن أن يختزل حقيقة الوضع المأساوي لإخواننا الفلسطينيين في قطاع غزة، إذ تعجز الكلمات في هذا المقام العصيب عن وصف الألم الذي يعتصر القلوب الدامية لكل الشعوب العربية المستضعفة إزاء ما يقترفه الصهاينة في هذا القطاع المحاصر على مدار الساعة من حرق وتقتيل وإبادة.

والمضحك والمبكي في الأمر أن الكيان الصهيوني نفسه يتذرع بهذا المثل عبر ناطقيه الرسميين في الجيش والخارجية الذين يجأرون به بلغة عربية فصيحة كلما استدعوا إلى مايكروفونات بعض القنوات الإذاعية أو التلفزيونية الناطقة بالعربية.

والمفارقة العجيبة أني لم أسمع أحدا من الممثلين العرب الرسميين في الشؤون الخارجية أو الداخلية قد أخذ العزم على الجهر بهذا المثل ولو مرة واحدة، مع أنهم في سياق ما يجري حولهم من أحداث وملابسات أحق به وأولى، وكأنهم قد سحبوا من لسانهم، أو كأن الصهاينة قد صادروه من قاموس لغتهم العربية،على عادتهم في المصادرة والمداهمة، فأصبح عندهم نسيا منسيا.

ومع أن صواريخ القسام الغزاوية البدائية التي لا تكاد تساوي في ميزان معادلة الحرب والردع شيئا يذكر فإن مدلولها في ميزان المقاومة المشروعة للمحتل المتجبر الغاصب شيء عظيم في حق الله والوطن والتاريخ. غير أن الصهاينة يعتبرون تلك الصواريخ أو الأنابيب الحديدية ذريعة كافية لمصادرة شعب بكامله في حقه وفي أرضه وفي عرضه، وليعلنوها أمام الملأ محرقة كبرى لا تبقي ولا تذر.

ثم يأتي بعد ذلك مجلس النفاق الدولي وبعد أن يُعطى للصهاينة من الوقت والضوء الأخضر ما يكفي وزيادة ليفعل الصهاينة بغزة ما يشتهون من أفعال البطش السادية، ومن الذرائع ما يخلي ساحتهم من كافة المسؤوليات التاريخية والأخلاقية والقانونية. بل وليقف هذا المجلس بسبب الفيتو الأمريكي عاجزا، كما عودنا في كل مرة، عن استصدار أي قرار صغير الحجم ضعيف اللهجة بالإدانة.

وكل ما يرجوه عالم النفاق الدولي الذي تقوده أمريكا وترعاه ببوارجها التي تمخر عباب المياه الإقليمية العربية عنوة وجبروتا، وبقواعدها العسكرية الجاثمة على قلوب معظم الحكومات العربية عدم الإفراط في استعمال القوة… !!

صحيح، لا يملك المواطن العربي أمام مشهد النزيف الفلسطيني وأمام فصول هذه المهزلة السياسية العالمية التي تورط فيها حكامنا العرب وأذعنوا لها منذ بداية اللعبة، ولم يعودوا يملكون إزاءها حولا ولا قوة إلا أن يموت بالغيظ والكمد حتى تنفجر مرارته أو الصراخ في بيداء قاحلة لا مجيب فيها حتى ينقطع صوته فيحل به وباء الخرس والعمى الذي حل بحكوماتنا العربية المهيبة ..!!