الجمعة، 28 مارس 2008

اعتزال التدوين؛ بين الرغبة والإكراه

بدأت عدوى الاعتزال والانسحاب التدريجي من معترك التدوين تنتشر في أوساط المدونين العرب في هذه الأيام مما يطرح أسئلة مقلقة حول أفق التدوين العربي ومستقبله.

ويقدم المعتزلون والمنسحبون ذرائع شتى لتبرير مغادرتهم لمنصة التدوين بأقل الأضرار والخسائر المعنوية والنفسية الممكنة، معتقدين أن تعليق تلك الذرائع أو بيانات الانسحاب على واجهة المدونة قبل التواري عن الأنظار والاختفاء التام كاف لإبراء ذمتهم تجاه آلاف الزوار والقراء الذين عبروا حدود مدونتهم الافتراضية وشاطروهم ملح وخبز الكتابة الافتراضية من خلال الإطراء والتعليق والمتابعة الوفية، أو حتى من خلال التنويه والتحية.

ففي مجال الكتابة الافتراضية تصبح المصافحة الفكرية بين المدونين أنفسهم وقرائهم المتباعدين في المكان أهم من تشابك الأيدي، لو قدر لهم أن يلتقوا في مكان ما على أرض الواقع ويتصافحوا فيما بينهم مصافحة يدوية عادية.

إن العلاقة الافتراضية بين المدون ومحيطه الافتراضي تكبر في نفسه كل يوم وتولد لديه مزيدا من الحوافز والمثيرات التي تضغط على عقله ونفسه وإحساسه فتجعله يستشعر قيمة الوفاء والعطاء المستمر وصدق الالتزام وحب المسؤولية فيما يكتبه أو يعرضه على صفحات مدونته.

صحيح أن قرار فتح مدونة اختيار شخصي، كما أن قرار الكتابة فيها بوتيرة مستمرة أو متراخية أو متقطعة اختيار شخصي أيضا، كما أن أمر إيقاف المدونة عند سقف محدد من الموضوعات أو عدد معين من الإدراجات شأن خاص أيضا، بل وحتى قرار شطب أي مدونة من الوجود الافتراضي يبقى متوقفا في الأحوال العادية على اختيار صاحبها ما لم تتعرض إلى مصادرة أو حجب أو أعطاب تقنية قاتلة، خاصة وأن أمر الشطب النهائي لا يتطلب غير ضغطة زر واحدة فتنسف المدونة التي بنيت دعائمها على مدار الأعوام الطوال من أساسها نسفا لا يبقى لها أثرا ولا خبرا. وكم تضيع عشرات المدونات في كل يوم بسبب ضغطة بلهاء لاإرادية أو بسبب ثورة اليأس والإحباط والغضب..!!

وما أخشاه بعد انتشار عدوى الانسحاب أن تنتقل العدوى إلى شطب المدونات أيضا. وأي انسحاب لمدون جاد وأي شطب لمدونة رزينة فإنه يترك وراءه فراغا لن يملأ إلا بالغثاء والطفيليات الافتراضية التي تلتهم في كل يوم مزيدا من المساحات الافتراضية الخضراء التي يتعهدها أصحابها ما وسعهم الوقت والجهد بالتشذيب والتهذيب واستقطار ماء الفكر ورحيق الروح في زمن أصيب فيه الناس من حولنا بالقحط والإسفاف والضحالة.

وربما من هنا تولدت الرغبة لدى بعض الغيورين المتابعين لشأن التدوين العربي في تحويل بعض المدونات المتميزة إلى منشورات ورقية للتعريف بها على أوسع نطاق من جهة، وحفظها من الضياع من جهة أخرى.

وأنا هنا أيضا لا أستطيع أن أنكر على نفسي ما ينتابني بعض الأحيان من الشك والإحباط حول جدوى التدوين العربي برمته؛ فأنا كبقية الإخوة المدونين باللغة العربية أجد نفسي أنني أكتب من موقع غير مريح بسبب ما تراكم على واقعنا العربي في هذه العقود الأخيرة من أحزان وأشجان، وخاصة في هذه السنة الجارية التي شهدت ولا زالت تشهد منتهى التصدعات والتمزقات التي يمكن أن تحل بعقل المواطن العربي وجسمه وجيبه.

وكل تلك التمزقات تلقي بظلالها القاتمة الخفية على نفس المدون العربي الجاد فتخرسه ولا يستطيع أن يخرج كلمات البوح العالقة في بلعومه إلا بشق الأنفس. بل قد يمضي الواحد منا الأيام الطوال مذهولا متألما متأملا في هذا المشهد ولا يستطيع أن ينبس ببنت شفة، ليتحول الصمت كما الانسحاب إلى شكل من أشكال الاحتجاج.

وكل هذا يسرق الفرحة من المدونين العرب عامة ويحرمهم متعة الكتابة في الأوضاع المريحة، كما بقية كتاب ومدوني دول العالم المتحضر التي استطاعت أن تقفز إلى الضفة الأخرى وأن تحيى في حكم الوقت حرية وحقوقا ومسؤولية وكرامة.

ليست هناك تعليقات: