الأربعاء، 12 مارس 2008

حديث الجوطية

لا أعلم بالضبط متى دخلت كلمة (الجوطية) إلى اللسان المغربي الدارج. ولعل بناءها اللفظي والصوتي منحوت من كلمة (jeté) الفرنسية، على غرار كثير من الكلمات التي يستعملها المغاربة في حياتهم اليومية في وصف الأشخاص والأماكن مثل كلمة (الزوفري) التي نحتت من كلمة: (ouvrier) بعد أن شحنت بدلالات قدحية، ومثل اسم (بتيجة) الذي أطلق على مدينة سيدي قاسم. وقد نُحت من كلمتين فرنسيتين هما (petit ) و(gent)، ومثل وصف بعض تصرفات البشر المشينة بطريقة رمزية كما توحي بذلك كلمة: (الفيراج) عندما ركبت بطريقة فنية مسجوعة في التعبير المغربي الشائع الذي يجرى مجرى الأمثال: ( الله ينجيك من الحاج والعجاج والفيراج)، فاحتفظت بدلالتها الأولى لكلمة:(virage) ، من غير إضافة أو انزياح عن المعنى الأصلي لها في اللغة الفرنسية، وبما يفيد توخي الحذر من بعض الحجاج الذين لا تردعهم زيارة مناسك الحج المشرفة عن فعل المنكرات واقتراف المحرمات، تماما كما يجدر بسائق السيارة عندما يقترب من أحد المنعرجات الحادة التي تنعطف يمينا أو يسارا.

وقد يطول بنا الحديث لو حاولنا استعراض كل الكلمات والاشتقاقات اللغوية الفرنسية التي انصهرت في اللسان المغربي الدارج منذ أن فـُرض نظام الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912 حتى يومنا هذا، وقد اكتفينا بهذه الأمثلة التوضيحية فقط حتى لا نخرج عن النطاق الذي رسمناه لهذا الإدراج.

أما كلمة (الجوطية) التي جعلناها محور هذا الإدراج فتعني عند المغاربة تلك الأمكنة الهامشية التي يباع فيها كل ما هو عتيق ومستعمل. سواء تعلق الأمر بالمستعمل المحلي أو المستورد.

وإذا كانت كلمة (jeté) في الفرنسية تعني المتروك والمهمل والمُبعد، فإن كلمة (الجوطية) تعني في قاموس المغاربة اليومي عكس ذلك تماما؛ إذ المقصود منها هو إعادة كل ما هو مهمل ومقذوف به بعيدا أو حتى في القمامات والأزبال إلى دورة الحياة والإنتاج مرة ثانية أو ثالثة حتى يفنى أو تنقطع الفائدة من استعماله تماما.
ففي مغرب التهميش والهشاشة لا تستهلك الأشياء طبقا لمنطق الصلاحية والرفاهية وإنما لمنطق الضرورة والحاجة الملحة.

ومع أن كل بلدان العالم لها (جوطيتها) الخاصة، فإن (جوطية) المغاربة يمكن أن تعتبر (جوطية) كل (جوطيات) العالم. ففيها من كل لون من ألوان القمامة العالمية فن وطرف.

ولعمال المهجر المغاربة (الفاكانس) الذين يعودون إلى مغربهم في عطلة الصيف وفي المناسبات الدينية والعائلية نصيب وافر في ترويج نشاط (الجوطية) التجاري بما يجلبونه معهم من الخردة البالية. وبعضهم يقتني سيارات (الترافيك) الكبيرة عند العودة خصيصا حتى يتمكن من جلب أكبر قدر ممكن من الخردوات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقطع الأثاث المفكك ومحركات السيارات البالية والدراجات النارية والعادية فضلا عن الغسالات البالية و كشكول الأواني المنزلية من الصحون والكؤوس والشوك والملاعق وغير ذلك مما لا يعد كما وكيفا.

وإذا كنت من هواة جمع القناني الفارغة مثلا، فإن (الجوطية ) المغربية تقدم لك مستودعا ضخما لا ينفد من القناني المختلفة المنوعة في أشكالها وألوانها وأحجامها. وقس على هذا المنوال ما شئت من القطع والأجزاء والعناصر المستعملة المتبقية مما أصله ثوب أو خشب أو بلاستيك أو حديد أو نحاس.

ولم تبق (الجوطية) المغربية بعيدا عن ركب الحضارة التكنلوجية الرقمية، بل سايرت إيقاعها السريع، وأصبحت مكبا لكل نفايات الأقراص المدمجة والشرائح الإلكترونية المفككة ولآخر صيحة من صيحات الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة. وعند (جوطية) درب غلف بالبيضاء المشهورة عالميا في القرصنة التقنية الخبر القين.

وحتى بعض الأجانب الذين استوطنوا مدن المغرب بكثرة في السنوات الأخيرة بدأت تنمو لديهم عادة ارتياد( الجوطية) على غرار فقراء المغرب المكتوون بنار الغلاء في هذه الأيام، ولكنهم لا يبحثون بين أكوام الخردة عن برغي أو مسمار أو صفيحة قصدير، وإنما عن بعض التحف النادرة المطمورة في ثنايا أكوام (الجوطية) التي قد لا تقدر بثمن.

ليست هناك تعليقات: