الأربعاء، 16 أبريل 2008

البياض الافتراضي

ليس المقصود بالبياض الافتراضي ذلك الفراغ أو الخواء الذي يشبه العدم، لأن جزء كبيرا من مصالح الناس في عالمنا الأرضي صار متوقفا على أجهزة الكمبيوتر وعلى أنظمة الاتصال والمعلومات المتبادلة بين الناس عبر بوابات السماوات الافتراضية المفتوحة على مدار الوقت، وإنما المقصود من البياض الافتراضي ذلك الوقت الميت الذي ينفلت منا ويضيع كالهباء عند تقليب الصفحات الافتراضية وعند التجوال الطويل عبر المسارات الرقمية المتشابكة الممتدة بلا بداية ولا نهاية، حتى لو كان ذلك من غير وعي أو قصد.

لقد أصبح مجرد امتلاكنا لجهاز كمبيوتر موصول بالشبكة امتلاكا لكل العوالم الافتراضية الغزيرة بعجرها وبجرها وبكل ما فيها من غث وسمين وجليل وحقير.وأي معنى أكبر وأخطر من أن تصير كل تلك العوالم العجيبة الساحرة الآسرة بين أيدينا دفعة واحدة نسافر في أرجائها الفسيحة بحرية متى شئنا وكيف شئنا، ولمجرد نقرة خفيفة أو جرة كف بسيطة تمسك بفأرة الحاسوب من غير رقيب أو حسيب اللهم رقابة الضمير، إن كانت هنا بقية حياة للضمير وللرقابة الذاتية في هذا الزمن الذي يتحول ويتغير بسرعة جنونية؟ ! .

إن غزارة مواد العوالم الافتراضية التي يتفنن أصحابها في كل يوم جديد في طريقة عرضها وتقديمها هي في حد ذاتها مشكلة كبرى، وإذا لم نحسن تدبيرها وتصريفها يمكن أن تصيبنا بنوع من النهم والإدمان الذي قد يؤدي إلى نوع من الخمول الفكري والتبلد الحسي الناتجين عن التخمة الافتراضية الزائدة. ومن هنا وجب علينا أن ننتبه إلى حجم الأضرار والعلل والأمراض الناجمة عن سوء التغذية الافتراضية في غياب الوعي وشروط السلامة الصحية الجسمية والعقلية عند الإقبال غير المعقلن على مواد الأنترنت المختلفة، تماما كما هو الحال بالنسبة لاستهلاك المواد الغذائية الطبيعية أو المصنعة، الطرية أو المعلبة.

وقد استطاعت أجهزة عرض المعلومات الرقمية الحديثة من هواتف وحواسب ثابتة أو محمولة وبما توفره من حميمية وسرية ومن مرونة وسلاسة وتخزين وتشفير وتمويه ومحو لكل أثر أو بصمة عند عبورنا بأحد المسارات الافتراضية الموبوءة أو المشبوهة أن تغير كثيرا من ملامح القراءة الورقية وطرق التلقي السمعي البصري القديمة.

وبما أن عمر الإنسان قصير وبما أن ما يعرض على الشبكة العنكبوتية غزير غزارة الطوفان المتدفق بقوة وعنف فإن تدبير علاقتنا بالعوالم الافتراضية عند التصفح والقراءة أصبح اليوم مطلبا ضروريا حتى لا نسقط في الضحالة والسطحية أوالبياض الافتراضي إن صحت لنا هذه العبارة.

لقد صرنا نخشى أن يفوتنا جديد العوالم الافتراضية اليومي فترانا نقفز من موقع إلى موقع ومن مدونة إلى أخرى نلتهم العناوين والصور بسرعة جنونية تتجاوز سرعة عقارب الساعة التي نحملها في معصمنا. وقد نمضي على هذا الحال الساعات الطوال دون أن ننتبه لنفسنا وللوقت الضائع المنفلت منا دون أن ندرك غاية أو نستفيد غنيمة من وراء كثير من الرحلات والجولات الافتراضية التي لا نجنى منها في كثير من الأحيان غير إرهاق الجسم وإضعاف البصر والبصيرة.

ونحن في هذا الوضع الافتراضي السريع المتقلب أشبه ما نكون بالمسافر في القطار فائق السرعة الذي يرى أشياء كثيرة تمر أمامه، ولكنه في واقع الأمر لا يرى شيئا لأن ما يلمحه ذلك المسافر عبر نوافذ القطار بسرعة البرق يمكن أن يمحى من الذاكرته بنفس سرعة البرق أيضا.
وقد تبين لي من خلال تتبع حركة زوار مدونتي (كلمات عابرة) أن كثيرا من زوارها لا يمكثون عندها إلا لثوان معدودة، فيكون وضعهم أشبه ما يكون بوضع ذلك المسافر وبوضع الطيور الوجلة أيضا لأنها ما تكاد تقع على الأرض حتى ترتفع عنها بسرعة. وكثيرا ما أتساءل مع نفسي: ما جدوى هذا العدد الهائل من الزوار العابرين بمن هذا الموقع أو ذاك بتلك السرعة؟، وهل ما نكتبه أو ندونه لا يحمل أية قيمة أو فائدة تقتضي الوقوف والتلبث؟، أم أن العيب كامن في عادات القراءة الافتراضية السائدة ؟!

إن التغذية الافتراضية الناجعة تقتضي التخير والانتقاء والتلبث الطويل عند بعض المواقع والمدونات والمنتديات التي تقدم صيدا معرفيا لائقا أو خبرة تقنية مفيدة بدل إضاعة الوقت في القفز السريع والتنقل المستمر عبر مواد الأنترنت التي لا يمكن أن تنفد أو تنتهي عند سقف محدد.
والغريب أن عدوى القراءة الافتراضية المبنية على العجلة والعشوائية قد انتقلت إلى مجال القراءة الورقية أيضا. فأصبح صبرنا على قراءة الكتب والجرائد قليلا، ولذلك كثيرا ما ترانا نلتهم بعيوننا عناوين أعمدة الجرائد وفقرات الكتب بسرعة وعشوائية دون تركيز أو تدقيق في التفاصيل تماما كما هو حالنا عند تقليب الصفحات الافتراضية.

وكل هذا من شأنه أن ينعكس في الأمد القريب أو البعيد سلبا على مستوى التحصيل الفكري الذي يتدحرج نحو السطحية والغوغائية، والتعبير اللغوي الذي ينزل في كل يوم في اتجاه الإسفاف والابتذال والعامية.

ليست هناك تعليقات: