الثلاثاء، 29 أبريل 2008

لغز العدادات الافتراضية

منذ أن وعى الإنسان علم الحساب وهو يصنع لكل حركة من حركات جسمه في الوجود مقياسا شاهدا على المسافات التي قطعها برجليه والأشياء التي حازها بيديه والآفاق التي أدركها بثاقب عقله ونفاذ بصيرته.

وقد كانت أعضاؤه المركبة فيه خِلقة وسائله الأولى للعد والقياس؛ فجرب استعمال المسافات الفاصلة بين أصابعه ويديه وقدميه كوحدة قياس حسية للمسافات والمساحات والكتل والأحجام؛ فجعل منها الشبر والذراع والخطوة ثم الفرسخ والأوقية والصاع والدونم والفدان …، كما جرب استخدام أنامله في العد من الواحد إلى العشرة وما فوق ذلك ليعرف كم له أو عليه، وما أخذه وما أُخذ منه كما جاء في الذكر الحكيم ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) سورة ص، آية/ 23.

ثم كان من لوازم تطور هذا الكائن المدعو بالإنسان ما كان حتى اخترع لكل حركة من حركاته الطبيعية أو الاصطناعية في الزمان والمكان، بل ولكل نسمة هوائية، ولكل شهيق أو زفير أو نبضة قلب أو تدفق شريان أو عمل ذرة أو خلية وحدة قياس آلية أو رقمية شديدة التعقيد فائقة الدقة.

ويستحيل أن يخرج أي نشاط إنساني أو آلي في أيامنا هذه عن رقابة العدادات ولغاتها الجامدة على الحق كالميزان المستقيم؛ فكل الأشياء صارت في عالمنا المعولم والمعلب والمقولب مختزلة في الأرقام، محسوبة لنا أو علينا، مخصومة من حسابنا أو مضافة إلى رصيدنا سواء كنا أفرادا أو جماعات. وويل لمن فرط ولم يحسن التدبير والتدبر في لغة العدادت اللوغرتمية التي قد تعرف كل شاردة وواردة تخصان علم الإحصاء والحوسبة ولكنها قد لا تحسن أن تميز زيدا من عمرو، ولا تملك أن تصرح بمن اختلس أو زور ليُـرِبـح ذاته ويـُرضي نفسه ويُخسِـر الآخرين ويُحبـط غيره.

وعندما انتقل الإنسان بتطوره التقني إلى مستوى الحياة الافتراضية التفاعلية في السنين القلية الماضية فقد جعل لتلك الحياة التي ما هي إلا نسخة ثانية من حياته الواقعية عدادات أخرى لكنها من طينة الحياة الافتراضية نفسها؛ فكل ما في العوالم الافتراضية مرصود محسوب أيضا وذلك بعدد الأشخاص الافتراضيين أنفسهم وبعدد ما يستعملونه في بيئتهم الافتراضية من أجهزة وبرامج ووسائل ربط واتصال.

غير أن العدادات الافتراضية نوعان: ظاهر وخفي. وأصحاب المواقع والمنتديات والمدونات يملكون اليوم خيارات برمجية متعددة لاستخدام أحد النوعين من العدادات؛

فالذين يختارون العدادات الظاهرة تحدوهم الرغبة الذاتية الصادقة لكشف المعطيات التي يعتقدون أنها حقيقية وذات نسبة عالية من الصحة عن حركة زوارهم أمام الملأ الافتراضي بكل وضوح وشفافية إن لم يعبثوا بإعداداتها بالغش والتزوير لأغراض في نفس يعقوب؛ ومنها: إعطاء انطباع مزيف برواج مدوناتهم ومواقعهم، أما الذين يختارون العدادات الخفية فإنهم لا يفضلون الكشف عن معطياتها إلا لأنفسهم فقط، وفي سرية تامة عن الملأ الافتراضي وذلك عبر استخدام مفاتيح الولوج المشفرة الخاصة بهم لأغراض في نفس يعقوب أيضا، ونادرا ما يفصحون عنها. وربما يكون ذلك راجعا إلى استخفافهم بأمر الزوار الافتراضيين الذين لا يزيدون في نظر بعضهم عن كونهم مجرد خيالات وأشباح أو مجرد أرقام جوفاء خالية من كل معنى أو دلالة حقيقية.

ومع أن كثيرا من المواقع التي تقدم خدمة التدوين المجاني تتوفر على عدادات افتراضية للزوار غير أن الولوج إلى إعداداتها يبقى أمرا مستحيلا الشيء الذي يدفع بعض المدونين المنتسبين إليها إلى تثبيت عدادات مخصصة مجانية أو مدفوعة الأجر على الواجهة الأولى لمدوناتهم للتعرف بشكل أدق على حركة زوارهم في جميع نواحيها التفصيلية: من حيث مصدر الزوار من كافة القارات والبلدان والمدن وحتى الأحياء إن أمكن، ومن حيث الروابط التي استخدموها للوصول إليها في أوقات معلومة، ومن حيث الصفحات الأكثر قراءة، ومن حيث العناوين الأكثر طلبا لدى محركات البحث العملاقة ككوكل أو ياهو وغيرهما. هذا بالإضافة إلى نوع البرامج والمتصفحات والشاشات التي يستخدمها الزوار لدى عبورهم، والوقت الذي أمضوه في قراءة هذا الإدراج أو ذاك وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة المضبوطة باليوم والساعة والدقيقة والثانية وبالجداول التوضيحية العمودية والأفقية ومؤشرات الصعود والنزول الحمراء والخضراء التي تلخص حركة الزوار على مدار الوقت تماما كما في عدادات البورصة وسوق الأسهم المالية والتجارية.

ولكن، ورغم طفرة العدادات الافتراضية في هذه الأيام من كل لون وصنف يحق لنا أن نتساءل: ماذا يعني مقياس الارتفاع والهبوط في سوق التداول الافتراضي بالنسبة لصاحب موقع أو مدونة؟، وعن أي نوع من الزوار والقراء الافتراضيين يمكن أن نعتمد أو نتكل في تطوير أداء الكتاب والمدونين الافتراضيين، إذا ما علمنا أن أغلب الزوار لا يبحثون في عالم الإنترنت عن مواد القراءة الثقافية الرصينة، وإنما جل همهم البحث عن صورة مثيرة أو تحميل مقاطع فيديو أو نغمات موسيقية.

ولذلك قد لا يبدو غريبا أن تكون أكثر المواقع والمدونات زيارة في واقعنا العربي الافتراضي تلك التي تعج بالصور الثابتة والمتحركة وبملفات التحميل وبرامج الدردشة. فهذه المواد هي الأكثر إثارة لحاسة الاستشعار لدى عدادات الزوار فتجعل أرقامها تتقلب بسرعة يصعب ملاحقتها بالعيان أحيانا لكثرة الزوار المتهافتين على هذه المواد المعروضة وسط عدد هائل من الفلاشات المضيئة والزخارف والصور الملونة التي ينجذب إلى سحرها الزوار زرافات ووحدانا كما ينجذب الفراش إلى وهج الضوء والنار.

ثم ماذا يعني لنا موقع ما من هذا النوع عندما يحصد ما معدله عشرة آلاف زيارة في اليوم الواحد مثلا ؟؟ معناه أن عداد الزوار لا يثبت أو يتوقف طرفة عين، وكل هذا ليس بسبب غنى محتواه الفكري أو الأدبي أو الفني الراقي وإنما فقط بسبب مجموعة قليلة من الصور المثيرة أو مقاطع فيديو أو برمجيات أو أفلام أو روابط مختلفة للتحميل معظمها تم السطو عليه بالقص واللصق لدى المبتدئين أوبوسائل القرصنة لدى المحترفين؟؟ ثم ألا يغري هذا بالآخرين من أصحاب المدونات والمواقع الذين لا يتحرك مؤشر الزوار لديهم إلا في أوقات متباعدة جدا إلى التفكير مليا في أمر شح الزوار عند البعض إلى درجة العدم أحيانا وفيض الزوار عند البعض الآخر إلى درجة الطفح أحيانا أخرى؟.

فمن يعول على بنات أفكاره الأصيلة في واقعنا الافتراضي العربي لجلب الخطاب والزوار، دون مراوغة أو إشهار أو تملق واستجداء أواعتراض بريد الآخرين وإرسال بطائق الدعوة للزيارة إلى كل من هب ودب مرفقة بمختصر الإدراجات وعناوين الموضوعات المثيرة، فما عليه سوى الانتظار الطويل ليفوز بحظ ضئيل من الزيارات اليومية لا يتجاوز عند العد أصابع اليد الواحدة، إن لم تتعرض بنات أفكاره مع مرور الوقت للكساد والبوار عند انعدام الخطاب والزواربشكل تام؛ وحينها يصبح أمام ثلاثة خيارات؛ إما أن يلجأ إلى إجراء عمليات تجميلية على بنات أفكاره بإضافة حزمة قوية من الصور والأخبار والمواضيع ذات الحساسية الشديدة جنسيا ودينيا وأخلاقيا وركوب موجة الضحالة والتسطيح نزولا عند رغبة الجمهور الافتراضي الذي يلهث وراء كل مظاهر الإثارة والشغب والتجسس والفضول، وإما أن يلوذ بالصمت المطبق عن الكلام المباح إشفاقا على نفسه من الغبن والحسرة، وإما أن يعمل على إغلاق موقعه أو مدونته بقرار نهائي لا رجعة فيه وينسحب من عالم افتراضي لم يستجب لمطامحه أو لم يستطع أن يثبت فيه مواطء قدمه.

وربما ولهذا السبب قد يحلو للبعض أن يشبه عالمنا الافتراضي العربي بنبتة (الخرشوف) التي يرمى بثلثها، ولا يستعمل منها إلا الثلث الباقي الناجي الذي يصلح أن يُستهلك ويستسيغه بلعوم الإنسان العاقل الذي يستطيع أن يميز بين العسلوج والشوك.

ليست هناك تعليقات: