الثلاثاء، 6 مايو 2008

عندما يصل الإنترنت إلى مجتمع القرية المغربية

الحديث عن قرية " الإنترنت " بدلالتها الكونية المتسعة المعولمة شيء والحديث عن وصول الإنترنت إلى قرية من القرى المغربية النائية المحدودة المعزولة في الزمان والمكان شيء آخر. فكيف يمكن لهذين الواقعين المتباعدين المتناقضين أن يجتمعا ويلتئما في عقول القرويين المغاربة البسطاء الذين جل متاعهم من حطام الدنيا بيت من قش وطين وبيدر وكومة تبن وبضعة حيوانات يقاسمونها عيش الحياة ومرها في الخصب والوفرة وفي الجفاف والقسوة؟!.

وكيف يمكن لقرى مغربية متواضعة رابضة في السهل أو معلقة في قرون الجبال الوعرة أن تستوعب مجرى وادي السليكون العظيم، وهي التي قد لا يتوفر معظمها على مجرى مياه عادية أو أقل من عادية كافية لإرواء ظمأ القرويين وظمأ ما في عهدتهم من أبقار وأغنام وأرانب ودجاج وبغال وحمير ..؟!!...

صحيح لقد مكن مشروع الحكومة المغربية لكهربة القرى المغربية بمساعدات دولية خارجية من إضاءة البيوت القروية بالمصابيح بدل قنديل الزيت أو مصباح الغاز(اللامبا)، غير أن هذا المشروع لن يكون مجديا إلا إذا كان مصحوبا بمد أنابيب المياه الصالحة للشرب ووصلها بكل القرى والمداشر النائية. فحاجة القرويين في هذه السنين العجاف إلى الماء آكد وأولى من حاجتهم إلى نور كهرباء لا يستغله معظمهم إلا لإضاءة إصطبل حيواناتهم وتفقد أحوالها في جنح الليل أما هم فقد اعتادوا التسلل إلى مخادعهم للنوم لواذا دونما حاجة إلى وضع (الأباجورات) عند يمينهم أو يسارهم.

ومن النتائج المباشرة لكهربة القرى المغربية وصول (البارابول) وانتشار الأطباق اللاقطة على البيوت القروية الواطئة وتزايد إقبال فتيات القرية الشابات على المسلسلات المصرية والسورية والمكسيكسية وحتى التركية إسوة بشقيقاتهن في المدينة. وقد بدأ الحديث عن أبطال المسلسلات الوسيمين والوسيمات يأخذ حيزا كبيرا من وقتهن عندما يجتمعن للسقي عند العين أو يسرحن بقطعان ماشيتهن في البراري.

أما النساء والرجال القرويون المكتهلون والطاعنون في السن فلا زال عندهم بقية ميل قوي إلى تتبع أخبار الملك (سيدنا) ونشرة الطقس وسهرة السبت والمسلسلات المغربية التي يغلب عليها الطابع القروي من قبيل مسلسل (وجع التراب) الذي حاز على نسبة مشاهدة عالية في الأوساط القروية المغربية.

أما الشباب القرويون فقد أبانوا عن ولع خاص بتتبع جديد ذبذبات القنوات الفضائية وطرق برمجتها، وضبط توجيه أطباق الالتقاط مما قد لايستطيعه بعض شباب الحاضرة. وتلك مهارات فطرية كونوها لأنفسهم من فرط عادة ملامستهم اليومية لطبق الاستقبال ولأجهزة التحكم الرقمية ولفراغ البال. وفي العادة فإن شباب القرية هم المتحكمون في جهاز(الريموت كنترول)، وهم يقبضون عليه قبضة حديدية درء لكل ما من شأنه أن يخدش حياء أو يسبب حرجا أخلاقيا، وخاصة عندما يجتمعون مع أفراد عائلتهم في أوقات الأكل أو عند الفراغ من الأعمال الفلاحية الروتينية، ويكون إلى جانبهم الأمهات والأخوات والخالات والعمات. على عادة القرويين في الالتئام الشديد عند الأكل وعند الأتراح والأفراح.

ومع انعدام وجود الهاتف الثابت بمعظم القرى المغربية غير أنه قد تم تعويض هذا النقص بالهواتف النقالة، إذ لا تخلو معظم البيوت القروية من هاتف نقال واحد أو أكثر. ومعظمها لا يستعمل إلا لتلقي المكالمات الهاتفية الخارجية الواردة عليهم من أبنائهم الذين غادروا القرية للعمل بالمدينة أو هاجروا إلى أوربا بطريقة شرعية أو سرية.

وبما أن تغطية الاتصال الهاتفي بالقرى المغربية تكون في الغالب ضعيفة فإن للقرويين طرقا خاصة ابتكروها للإبقاء على حرارة اتصال هواتفهم النقالة؛ ومنها أنهم يعلقون هواتفهم عند نقطة أو زاوية مرتفعة بمقدار معين عن سطح الأرض من ركن البيت أو باحته، وإن اقتضى الأمر فعلى عمود مرتفع أو غصن شجرة، وذلك في انتظار رنة قد تأتي وقد لا تأتي.

وأخيرا وبعد تأخر طويل جاء الدور على قرية الإنترنت العجيبة لتحل ضيفة على بعض القرى المغربية كخطوة أولى محتشمة وذلك بعد أن تم اعتماد الإنترنت اللاسلكي من قبل بعض الشركات الخاصة المحتكرة لسوق الإنترنت في المغرب.

وعندما زرت قريتي في المدة الأخيرة لم يثرني إلا حديث أهلها من الشباب وحتى من الكهول عن العوالم الافتراضية لأول مرة؛ فلم أعد أسمعهم يتحدثون عن أخبار الجزيرة والعربية وعن نتائج المباريات في القنوات الرياضية المشفرة كما في السابق، وإنما صرت أسمع لهم حديثا عن كوكل وياهو وأن معظم شباب القرية قد فتح له حسابا بريديا وأن معظمهم قد تعلم فن الإبحار عبر المواقع في مقهى قريتنا الطينية التي تحولت بين صبح ومساء إلى مقهى إلكترونية تتوفر على حاسوبين نقالين وعلى جهازين لاسلكيين للربط بالشبكة العنكبوتية، وأن فلانا الفلاني قد غمزت صنارته الافتراضية فاصطاد، وهاهو يتواصل مرة في الأسبوع مع امرأة أمريكية. وقد تواعد معها على الالتقاء هنا في القرية في الصيف المقبل. فقد أظهرت تلك السيدة رغبة قوية في زيارة قريتنا التي تنعتها في رسائلها بالجنة وينعتها شبابها العاطل بالحفرة في انتظار من يخرجهم وينقذهم منها، حتى لو تم ذلك على يد عجوز أمريكية شقراء شمطاء تطل ذات يوم كطائر الفينيق الخرافي لتنتشلهم وتحلق بهم بعيدا عن وجع تراب القرية.

ليست هناك تعليقات: