الخميس، 22 مايو 2008

قطوف تدوينية: الجزء الأول

أفردت لقضايا التدوين حيزا مهما من مدونتي (كلمات عابرة)؛ إذا تجاوز عدد الإدراجات التي رصدتها للتدوين ولفضاء العوالم الافتراضيةالخمسين، وكنت قد كتبتها تباعا منذ عامين ونصف.

وقد أحببت بهذه المناسبة أن أتخير لزوار وقراء هذه المدونة الكرام بعض العبارات والفقرات التدوينية المتميزة بإشاراتها العميقة إلى جانب واحد أو أكثر من قضايا التدوين المختلفة، وهي مرتبة حسب عمرها الافتراضي من الأعلى إلى الأدنى:



· ربما يكون قد آن الأوان ليُعول أيضا على مجهود كثير من المدونين الذين قطعوا أشواطا متميزة في حقل التدوين الجيد المحكم كمحطات مرجعية لاستكمال دوائر البحث العميق المتخصص في مجال تحليل الخطاب العربي المعاصر، خاصة وأن معظم المدونين الأصلاء يصدرون في الغالب الأعم عن دوافع ذاتية حقيقية أصيلة تضطرهم للبوح والتعبير، وهذا ما يفتقر إليه في الغالب الأعم كثير من الكلام المأجور.

· أصبح التدوين العربي أهم وعاء ثقافي لفهم حقيقة العالم العربي من الداخل والخارج، ومن الأعلى ومن الأسفل، ومن اليمين واليسار ومن كل الأنحاء والاتجاهات والنوازع والرغبات. وإن بدا هذا الوعاء في بعض الأحيان أشبه ما يكون بالمرايا المقعرة أو المحدبة نرى فيها أنفسنا ويرانا فيها الآخرون بأشكال غير الأشكال وأحجام غير الأحجام وألوان غير الألوان.

· ولو كان في وسع كل من يملك حسابا بريديا عاديا أن ينشئ مدونة لتضاعف عدد المدونات العربية مرتين أو أكثر، وهذا ما قد يجعل من أحكامنا على التدوين العربي حتى اليوم مجرد انطباعات وأفكار واقتراحات أولية في انتظار أن يكتمل النصاب العام.

· صحيح، لقد استطاع بعض المدونين أن يلفتوا نظر المواقع الإلكترونية الكبيرة، وربما التحق بعضهم بجريدة أو صحيفة، أو بمحطة إذاعية أو تلفزيونية، وربما وجد بعضهم مقالاته منشورة هنا أو هناك، وربما تمكن البعض من جلب قدر بسيط من المال العائد من بعض الخدمات التقنية الخاصة أو من بعض الإعلانات التي قد يبثها عبر مدونته…. لكن تبقى ميزة التدوين الكبرى أنه المساحة الحرة المتاحة في هذا العصرالرقمي العجيب بسخاء لفك العزلة عن الذات ومقاومة حالة الصمت العربي القابعة في داخل كل واحد منا.

· لا كرم في هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والكماليات أنفع من كلمات صادقة مضيئة نرسلها بسخاء عبر السماوات الافتراضية المفتوحة ليتلقفها من شاء.

· ومرور الزوار الافتراضيين العابرين بالبيوت الافتراضية التي يكون بناؤها من حرف أو صورة أو صوت قد لا يختلف كثيرا عن مرورنا بالبيوت الحقيقية التي يكون أصلها من حجارة وحديد وإسمنت؛ فمن المرور ما يكون بحكم الصدفة، ومنه ما يكون بحكم الجوار والألفة، ومنه ما يكون للإعجاب والإدهاش بسبب غنى المضمون من حيث العمق والرحابة، أو بسبب جمالية العرض من حيث التنسيق والزخرفة. أما اليوم، وبعد أن تكدس البناء على البناء في عالم الحقيقة، فقد جاء الدور على واقعنا الافتراضي لتتكدس المواقع على المواقع والمنتديات على المنتديات والمدونات على المدونات فيما يشبه وفرة الطعام التي قد تصيبنا بالحيرة أو بالتخمة.

· وإن كثرة المدونات لا تعني بالضرورة ارتفاع الوعي بجدوى التدوين وبفاعليته وبقيمته داخل المجتمع العربي، إلا في الحد القليل المفيد منها مما يمكن أن يبقى مع مرور الوقت، ويصمد في وجه عمليات الفرز والتخير والغربلة،

· إن انتظام حضور المدون الراشد الواعي بذاته وبمحيطه، على الساحة العنكبوتية يشعره في كل يوم بمزيد من المسؤولية، ويحثه دوما على النقد الذاتي والمراجعة التصحيحية ليفيد ويستفيد…

· إن التفاوت اللغوي في عالم التدوين العربي يبقى الظاهرة البارزة التي تؤشر على خلل كبير نتساهل في شأنه ونتسامح في حقه في كل يوم، وقلما نبه أحدنا إليه.

· وأنا هنا لا أقلل من قيمة أي مدونة كيفما كانت، لأن كل مدونة تحمل بين طياتها إشارة ما تتطلب نوعا خاصا من الدراسة والانتباه.

· أن تصبح كاتبا افتراضيا معناه أن تتحمل طقوس التوحد والعزلة الانفرادية الصامتة أمام شاشة الحاسوب المتوهجة التي تنسدل عليها حروف تفكيرك وتخييلك وتعبيرك فيما يشبه غزل الصوف الذي يشع بالدفء والحرارة. والكتابة الافتراضية اليوم، بالنسبة لمن يقدر ها حق قدرها، هي العطاء الصادق الذي لا يرجى من ورائه نفع أو أجر. إنها الكرم المعنوي الأصيل المتبقي في زمن الابتذال الجسدي للرجال قبل النساء، وفي زمن الشح والغلاء.

· العوالم الافتراضية كعوالم البحر الخفية؛ فيها من الغنى والعمق بمقدار ما فيها من الضحالة والسطحية. والكائنات الافتراضية كالأسماك والحيتان قد يطلب بعضها بعضا، ويفترس بعضها بعضا، وقد يسبح بعضها إلى جانب بعض، في وفاق وانسجام.

· لا شك أن كل واحد من المدونين قد التحق بالواقع الافتراضي من حيث انتهت تجاربه في واقع الحياة العامة على علاتها المختلفة. فكل مدون يرشح بما فيه عندما يروم رفع جانب من حياته الواقعية إلى السماوات الافتراضية المفتوحة على الدوام. ومع أن هذه حقيقة قد تبدو بديهية ولكن لا يقدرها حق قدرها إلا من خبر مهمة التدوين وأدرك بوعي حجم تلك المهمة وأثرها على المدى القريب والبعيد عندما يعم أثرها الإيجابي أو السلبي في الناس.

· الأسئلة التي نوجهها اليوم إلى التدوين قد تكون هي نفسها التي وجهت من قبل إلى الكتابة عندما استُحدثت لأول مرة في تاريخ التطور البشري الأقلام والمحابر؛ الاستعمال المعاصر لكلمة التدوين انتقل من مستوى التوثيق الخطي عن طريق الكتابة اليدوية على مسطح ورقي إلى التوثيق الرقمي عن طريق نقر الحروف على مسطح زجاجي مشع بالأرقام والحروف والألوان. ومن ثم صار التلازم قويا بين المعرفة والخبرة التقنية المرتبطة بعمل أجهزة الحاسوب وأنظمة تشغيله المعقدة، وفي تنسيق الخطوط وفي حفظ المعلومات واستنساخها واسترجاعها بواسطة الذاكرة الثابتة والمتحركة، أو البحث عنها عبر المواقع الافتراضية المبثوتة على الشبكة العنكبوتية بمساعدة محركات البحث العملاقة. وهو نفسه التلازم الكلاسيكي الذي يكون في العادة بين الكاتب الورقي وما يحتاج إليه من قلم ومداد وقرطاس.
فهل سيتمكن المدونون من انتزاع اعتراف ساحق من مجتمعهم يجعل من عمل التدوين حرفة وصناعة يشتهر بها صاحبها ويعترف له بها في بطاقته الشخصية كما هو حال الكتاب الورقيين؟؟.

ليست هناك تعليقات: