الثلاثاء، 27 مايو 2008

قطوف تدوينية: الجزء الثاني

هذه سلسلة أخرى من المقتطفات التدوينية المتخيرة. وقد قمنا بانتزاعها من سياقها العام التي وردت فيه حتى نظهر بعض ملامحها الدلالية على بعض قضايا التدوين الكثيرة بشكل واضح ومركز.

· ربما اعتبرت المدونات العربية التقنية من بين أكثر المدونات ارتباطا بالعلوم التقنية الحديثة، واحتراما لقواعد الكتابة الموضوعية من غير أن تفتقد أيضا للشروط الذاتية الخصوصية. وقد لا أبالغ إذا قلت: إن أول من فتح أعيننا على عوالم التدوين الفسيحة نخبة من الشباب العرب الذين بادروا إلى إنشاء أولى المدونات العربية منذ مدة غير بعيدة لا تتجاوز العقد الأول من هذه الألفية الثالثة.

· إن التغذية الافتراضية الناجعة تقتضي التخير والانتقاء والتلبث الطويل عند بعض المواقع والمدونات والمنتديات التي تقدم صيدا معرفيا لائقا أو خبرة تقنية مفيدة بدل إضاعة الوقت في القفز السريع والتنقل المستمر عبر مواد الأنترنت التي لا يمكن أن تنفد أو تنتهي عند سقف محدد.

· ويقدم المعتزلون والمنسحبون ذرائع شتى لتبرير مغادرتهم لمنصة التدوين بأقل الأضرار والخسائر المعنوية والنفسية الممكنة، معتقدين أن تعليق تلك الذرائع أو بيانات الانسحاب على واجهة المدونة قبل التواري عن الأنظار والاختفاء التام كاف لإبراء ذمتهم تجاه آلاف الزوار والقراء الذين عبروا حدود مدونتهم الافتراضية وشاطروهم ملح وخبز الكتابة الافتراضية من خلال الإطراء والتعليق والمتابعة الوفية، أو حتى من خلال التنويه والتحية.

· إن نظام القراءة الافتراضية نظام مغشوش لأنه يتجه دائما صوب الأعلى لا صوب الأدنى وصوب الظاهر على سطح المدونة أو الموقع لا إلى ما وراء ذلك من الصفحات المطوية. وبعبارة أخرى فعيون القراء الافتراضيين تتجه دوما صوب الجديد لا صوب القديم. لأن مبدأ الطراوة هو المبدأ المعمول به في سوق القراءة الافتراضية تماما كما في الأسواق التجارية العادية حيث تكون أنظار الزبناء مركزة على تاريخ الإنتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية.

· وطراوة التعليقات الافتراضية من طراوة الإدراجات والموضوعات الافتراضية أيضا، وكلما تطاول العهد بالإدراجات إلا وقلت التعليقات حتى تتوارى بعيدا في حيزها الافتراضي لتصبح نسيا منسيا إلى أن ترشد إليها محركات البحث عبر الكلمات المفتاحية فتنعشها وتنفخ فيها روح الحياة من جديد. وهذا بخلاف واقع القراءة الورقية التي يظل وضعها متراخيا في الزمن.

· من المدونين من يفضل أن يترك مدونته غـُفلا بلا ملامح واضحة اختيارا وليس اضطرارا، إما من باب الاحتياط والتقية المفرطة، وإما لدرء الشبهة عن نفسه، أو ليقطع الطريق عن أي أحد من الناس يمكن أن يواجه في يوم من الأيام في مقهى أو في الشارع العام بهذا السؤال: هل أنت فلان صاحب المدونة الفلانية…؟ !

· وإذا كانت مشاكل عالمنا العربي قد أخذت وقتا طويلا من الزمن حتى تفاقمت وتعقدت على النحو الذي هي عليه في الواقع فإنها لم تحتج إلا لسنوات معدودة على رؤوس الأصابع لتنتقل من مستواها الواقعي ذاك الراسخ على الأرض العربية بالأسباب والنتائج إلى مستواها الثاني الافتراضي، وهذا بعد أن انتشرت حُمى التدوين الرقمي في الأوساط العربية المختلفة كانتشار النار في الهشيم.

· مشاكل التدوين العربي منفردة أو مجتمعة جزء لا يتجزأ من مشكلات حقيقية واقعية موزعة بمقادير تكاد تكون متساوية على مجمل الأوطان العربية.

· ومما لا شك فيه أن حل أي جزء من المشاكل الحقيقية العربية على أرض واقعنا الحقيقي يتبعه بالضرورة أثر مماثل على مستوى واقعنا الافتراضي، مما يؤدي إلى مزيد من الانفراج في الزوايا الافتراضية المتفائلة التي يطل منها المدونون على عموم الناس قراء وزوارا ومعلقين.

· أخيرا وبعد انتظار طويل، تحقق الأمل الذي انتظره المدونون العرب من كوكل لدعم اللغة العربية؛ حيث أصبح في الإمكان وابتداء من منتصف شهر يناير 2008 تغيير واجهة البلوغر التابع لكوكل، لتصبح اللغة العربية،لأول مرة، من الخيارات الأساسية المتوافقة المتاحة للتدوين على هذا الموقع المشهورعالميا.

· هناك تقارب متزايد بين التدوين والصحافة في الآونة الأخيرة. وهو تقارب يمكن أن نرصده من جهتين: من جهة تزايد إقبال منابر الإعلام المختلفة على متابعة حركة التدوين العربي والتعريف بها وملاحقة قضاياها السياسية والحقوقية والأخلاقية. ومن جهة التحاق كثير من المدونين للكتابة ببعض الجرائد الورقية أو الإلكترونية؛ بل إن من المدونين من تخلى عن مدونته الأولى لينشئ بمجهوده الخاص أو بمجهود مشترك مجلة ورقية أو إلكترونية مستقلة.

· إن التعدد الثقافي واللغوي في مشهد التدوين المغربي ظاهرة طبيعية وصحية تجد تفسيرها العميق في التعدد الجغرافي والمناخي الذي ينعكس على سحنة المغاربة وعلى لون بشرتهم، ويؤثر بشكل كبير في لكنتهم وحتى في عاداتهم وطباعهم وأمزجتهم.

· تعمل وسائل الاتصال الرقمية الحديثة على تشكيل وعي ولاوعي إنسان هذا العصر إلى درجة قد تجعله تائها مأخوذا بسحرها وجاذبيتها معظم الوقت، وتذهله عن نفسه وعن أقرب الناس إليه. وكثيرا ما أتساءل مع نفسي: ماذا سيكون مصير الفرد منا لو قدر له في لحظة من الزمن أن تلتقط حواسه كل الإشارات الرقمية والموجات الصوتية التي تخترق أثيرنا السماوي عبر أجهزة الآرسال والاستقبال والتجسس والاستشعار دفعة واحدة؟؟… فربما ارتبك الجسم كله أو احترق أو أو تصدع أو تشتت..!! فالحمد لله الذي ألهم الإنسان القدرة على الإبداع ليخلق لنفسه في كل عصر ما يصلح أن يكون امتداد لذاته وعقله من الآلات والوسائط، على قدر مبلغ علمه واجتهاده.

· كل يوم نكتب فيه أو عنه هو ربح معنوي مضاعف لنا، لأن الهدف من كل كتابة أو تدوين، كما أوضحت سابقا في الفئة المخصصة لقضايا التدوين، هو القدرة على التحكم في الزمان وتقييد حركته بين دفتي كتاب لتتصفحه جميع الأيادي أو على صفحة حاسوب متوهجة لتتطلع إليه كل العيون.

· وكنت سابقا قد أطلقت صيحة مدوية مبكرة شاملة إلى جميع الشعوب العربية لتنتهز هذه الفرصة التي أتيحت لنا من أبواب السماوات الافتراضية، لتسجل حضورها المعنوي الخاص على الشبكة العنكبوتية، بعد أن ظل هذا الحضور المعنوي عبر تاريخنا العربي المجيد حكرا على أصحاب السلطة والسطوة والجاه ومن أحاط بهم من الأجراء والمداحين وبائعي الذمم. ولهذا السبب تبدو لي حالة التدوين العربي، في بعض الأحيان، كنوع من رد الفعل على فعل آخر فيما يشبه رد الصفعة والكيل، أو الرغبة الشديدة في التشفي والانتقام من هذا المستبد العربي الذي كان ولا يزال يقف على رؤوسنا ومعه سيف وجلاد، أو حفنة دراهم لامعة.

· مهما حاول كل مدون من جهد، لتتبع حركة الزوار والقراء الوافدين على بيته الافتراضي، ولإحصاء عددهم، وتحديد أماكن بلدانهم أو مدنهم وقراهم كأشخاص ماديين فإنه لا يستطيع أن يحدد دوافعهم ونواياهم كأشخاص معنويين محكومين بالدوافع الإنسانية النبيلة السامية، وربما حتى بالغرائز البهيمية الدونية.

· أكثر المخاوف والهواجس المسيطرة على عقل المدون ومشاعره، عندما يكوم منتسبا إلى المواقع المجانية أن يفيق ذات صباح فيكتشف أن مدونته قد حذفت نهائيا وصارت أثرا بعد عين.

وقد حدث هذا معي مرة واحدة، عندما جربت موقع بلوغ جاهز المغربي، حيث تم حذف نسخة من مدونتي هذه (كلمات عابرة)، ولم أتمكن من استرجاعها أو حتى فهم الأسباب المقنعة لكشطها، ولا زال مكان حذفها أبيض شاغرا حتى اليوم بعد أن كان يتصدر الواجهة، في المفضلة، بين مدونتي: بريد تطوان ومشروع ألف بالراشيدية.

فإننا لله وإنا إليه راجعون…ورحم الله سائر المدونات المجانية التي قد تضيع في الفراغ هباء كأوراق الخريف… !!

ليست هناك تعليقات: