الثلاثاء، 22 أبريل 2008

وعي اللغة ووعي الذات

إن الوعي بأهمية ذاتنا الفردية والجماعية هو الوعي القوي المتأصل بأهمية اللغة التي يتشكل وجودنا بها ومن خلالها.

ويقع الوعي بأهمية اللغة كوعاء شفاف أو لباس حميمي لكل ذواتنا العربية عند المسافة الممتدة في كياننا بين لساننا ووجداننا. فإما أن نكون كما نحن بخصوصياتنا اللغوية المتناسبة مع ملامحنا الجسدية التي تشكلت على مدى آلاف السنين بعوامل المناخ الإقليمي والمحلي، وإما أن لا نكون عندما نقبل أن نكون كما يراد لنا غيرنا أن نكون، حتى لو اقتـُلعنا من أصولنا وجذورنا.
وهذا ما وعاه وعبر عنه الشاعر زهير بن أبي سلمى في الزمن العربي الأول عندما قال:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والـــدم

ولم يقصد زهير في شعره باللسان غير اللسان العربي عندما كانت العرب تتشرب لغتها العربية بكامل كيانها وإحساسها كما تتشرب الماء حتى الارتواء التام عند المناهل العذبة الصافية.

ترى بأي لسان يُـراد لنا اليوم أن نتكلم وأن نتنفس وأن نرتوي وأن نحيى وأن نتخيل وأن نحلم بعدما تلوثت مناهل اللغة لدينا بالكدر والطين بعد أن وطئتها أقدام الغزاة الأباعد ومن حذا حذوهم من الأهل والأقارب ممن يملكون في دواخلهم دعوات مرضية انفصالية أو استئصالية؟

كما أن ما يشاع اليوم من تشكيك في جدوى استعمال اللغة العربية الفصحى بين أوساط الشباب يكاد يفقدها كل قيمة حيوية وكأنما صارت في نظرهم عجوزا شمطاء تقادم عليها العهد وحفر الدهر على جبينها التجاعيد العميقة وأصاب عظامها بالوهن الشديد فلم تعد تطيق أدنى حركة، وقد آن لها الأوان لتمضي بقية أيامها في عزلة تامة انتظارا للأجل المحتوم حتى تنقرض أو يحدث الله في شأنها أمرا.

إننا هنا أمام حالة عقوق لغوي أصبح يستشري في أوساط ناشئتنا وبني جلدتنا كالمرض الخبيث. وهذا العقوق اللغوي أكثر خطرا وأشد فتكا بالنفس والوجدان من عقوق الأبوين لأن ضرره أعم وأشمل وأكثر تغلغلا وامتدادا في الزمن.

كما أصبح جسد اللغة العربية كجسد الفئران الصغيرة المغلوبة على أمرها داخل مختبر تحليلات وتجارب. فهي تتعرض على مدار الوقت لعمليات متواصلة من أنواع التلقيح والتهجين اللغوي الأنبوبي الذي ينتج في كل يوم مزيدا من التشوهات والأورام اللغوية التي تفقد لغتنا ما احتفظت به على مدى القرون الماضية من حسن وبهاء.

وقد يكفي أن تجلس بعض الوقت أمام قنواتنا العربية الفضائية الترفيهية من المحيط إلى الخليج، أو تستمع إلى أصوات المذيعين والمذيعات في الإذاعات الجهوية والرسمية لتتأكد من عمليات النحت والتعرية التي يتعرض لها جسد اللغة العربية التي لا تفقدها فقط ذلك الحسن والبهاء وإنما لتصيبها فوق ذلك بعمى الألوان. أما ما يعج به مجتمع القراءة الورقية والافتراضية في وطننا العربي فتلك طامة كبرى. وقد يتطلب أمر إصلاح هذا الوضع عددا هائلا من المراجعيين والمصححين اللغويين..

ونحن هنا لسنا بصدد الإشفاق على واقع اللغة العربية، لأن هذه اللغة كما كانت فستبقى كما هي في أسلوب القرآن الكريم وفي كل الأساليب العربية الشعرية والنثرية المعتبرة المودعة في بطون الكتب، وهي تحتاج فقط إلى من يرشد إليها ويقوم بقراءتها قراءة موجهة من لدن أهل الغيرة والمعرفة والاختصاص.
وإنما نحن هنا نشفق على أنفسنا وعلى الحالة العربية كلها التي عرفت تراجعا خطيرا في الاقتصاد والتنمية بل حتى وفي توفير أدنى شروط العيش الكريم لعموم المواطنين المغلوبين على أمرهم فما بالنا بما فوق ذلك كله ..

إن لهاثنا المرضي وراء لغات الغرب الأوربية التي آثرناها على اللغة العربية في تسيير دواليب الحياة العربية الحيوية والأساسية ردحا طويلا من الزمن منذ قدوم المستعمر الأوربي بقضه وقضيضه إلى أرضنا العربية ولد انطباعا سائدا لدى نخبنا الثقافية والسياسية الحاكمة صاحبة المال والنفوذ والقرار أنه لا يمكن أن تسير دواليب الحياة العربية إلا بلغتين لا ثالث لهما وهما: الانجليزية أوالفرنسية. وكل هذا من أجل الحفاظ على مصالحها الشخصية وتلميع صورتها في نظر الدول الغربية التي تتملق رضاها بأنواع شتى من مظاهر التزلف والخنوع والتنازلات؛ ومن أخطرها تعطيل استخدام اللغة العربية في دواليب التدبير والتسيير العام.

إن القوة اللغوية جزء لا يتجزأ من القوة الحضارية والتنموية الشاملة في جميع الدول العالمية التي تحترم شعور مواطنيها اللغوي ولا تتهاون في شأنه مقدار ذرة؛ لأن التنازل في القليل يغري بالتنازل في الكثير لمن لا شأن ولا شخصية له.

وإنه لمن الجبن أن نعلق أسباب ضعفنا وتخلفنا عن الركب الحضاري الدولي السريع على مشجب لغتنا العربية التي ربما قد تكون آخر حبال نجاتنا من الفراغ والضياع والتشتت والفرقة إذا أحسنا الاستمساك بها.
وقد يكفي أن نعلن حالة عصيان جماهيرية عربية شاملة ضد كل أشكال الهيمنة والتبعية اللغوية الأجنبية.

ليست هناك تعليقات: