الأربعاء، 28 مايو 2008

الأرَضَة الإلكترونية


الأرَضَة من أقدم الحشرات التي حافطت على وجودها على سطح هذه الأرض منذ فجر التاريخ حتى الآن. وتسمى بالنمل الأبيض وإن كانت مختلفة عن النمل الحقيقي كل الاختلاف.

وبما أن غذاءها الأساسي يقوم على المواد السليلوزية فمن هنا يمكن أن نتصور حجم الأضرار التي سببتها هذه الحشرة الملعونة عبر تاريخها الطويل للسقوف الخشبية والكتب والأوراق والمواد المخزنة في الصناديق المقفلة والدهاليز المظلمة وحتى في جوف الأرض.

وكل هذا النشاط التخريبي لهذه الحشرة العجيبة يتم في سرية تامة بعيدا عن الضوء والأنظار، إذ يكون متغلغلا في التجاويف المظلمة داخل أجزاء الخشب أو في تضاعيف المخطوطاطات والكتب، ولا يظهر أثرها للعيان إلا بعد أن تأتي على جزء كبير من حاجيات الإنسان .

وفي القرآن الكريم سُميت الأرَضَة على صغر حجمها بدابة الأرض لما يمكن أن توحي به كلمة الدابة في الذهن من المعاني القوية والعبر الدالة.

وقد أوضح الله تعالى لنا في كتابه الكريم قوة هذه الحشرة التدميرية في سياق قصة موت سليمان؛ فعندما قبض ملك الموت روحَ سليمان وهو متكئ على عصاه اختلف قومه في أمره: أميت هو أم حي؟ !، فبعث الله الأرضة التي دبت بسرعة في عصاه. فلما أكلت جوفها انكسرت العصا وخر جسد سليمان. فأيقن الناس بحقيقة موته وأذعنت الجن لعلم الله وحكمته في تدبير شؤون خلقه. وذلك في قوله عز وجل: ((فلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين)) سورة سبأ/ آية رقم 14. ولفظة منسأته تعني: عصاه.

وهكذا قد يغيب أحدنا عن بيته لبعض الوقت فيجد أن سقفه الخشبي قد خر أرضا وصار فتاتا بسبب الرطوبة المهيجة لنشاط الأرضة، أو يجد أن كرسيه الخشبي المفضل لديه قد أصبح بين عشية وضحاها كومة من غبار، أو من غير قوائم...

وحتى عندما انتقل إنسان هذا العصر من مستوى الحياة الواقعية إلى مستوى الحياة الافتراضية المعلقة بين السماء والأرض أبت هذه الحشرة الملعونة إلا أن تلتحق بمجتمع العوالم الإلكترونية، لكن هذه المرة في هيأة ملفات وبرامح إلكترونية صغيرة الحجم خفية الملامح لتندس خلسة بين المواقع وتتنقل بين الحواسب والأجهزة الرقمية المتصلة فتتلف محتوياتها أو تربك أداءها عند التشغيل والعمل، وتتسلق الجدران العازلة العالية بخفة ورشاقة، وتخترق أعتى برامج الحماية وتقاوم أحدث المبيدات الإلكترونية للطفيليات الرقمية الزاحفة والطائرة.

فكم من المواقع والمعالم والصروح الإلكترونية تخترق في كل يوم لتتداعى حيطانها ودعائمها تحت قضم أنياب القوارض الفيروسية لتتداعى على بعضها البعض ولتذوب وتضيع كنوزها ومدخراتها في الفضاء الإلكتروني الشاسع كالهباء أو كالسراب.

الثلاثاء، 27 مايو 2008

قطوف تدوينية: الجزء الثاني

هذه سلسلة أخرى من المقتطفات التدوينية المتخيرة. وقد قمنا بانتزاعها من سياقها العام التي وردت فيه حتى نظهر بعض ملامحها الدلالية على بعض قضايا التدوين الكثيرة بشكل واضح ومركز.

· ربما اعتبرت المدونات العربية التقنية من بين أكثر المدونات ارتباطا بالعلوم التقنية الحديثة، واحتراما لقواعد الكتابة الموضوعية من غير أن تفتقد أيضا للشروط الذاتية الخصوصية. وقد لا أبالغ إذا قلت: إن أول من فتح أعيننا على عوالم التدوين الفسيحة نخبة من الشباب العرب الذين بادروا إلى إنشاء أولى المدونات العربية منذ مدة غير بعيدة لا تتجاوز العقد الأول من هذه الألفية الثالثة.

· إن التغذية الافتراضية الناجعة تقتضي التخير والانتقاء والتلبث الطويل عند بعض المواقع والمدونات والمنتديات التي تقدم صيدا معرفيا لائقا أو خبرة تقنية مفيدة بدل إضاعة الوقت في القفز السريع والتنقل المستمر عبر مواد الأنترنت التي لا يمكن أن تنفد أو تنتهي عند سقف محدد.

· ويقدم المعتزلون والمنسحبون ذرائع شتى لتبرير مغادرتهم لمنصة التدوين بأقل الأضرار والخسائر المعنوية والنفسية الممكنة، معتقدين أن تعليق تلك الذرائع أو بيانات الانسحاب على واجهة المدونة قبل التواري عن الأنظار والاختفاء التام كاف لإبراء ذمتهم تجاه آلاف الزوار والقراء الذين عبروا حدود مدونتهم الافتراضية وشاطروهم ملح وخبز الكتابة الافتراضية من خلال الإطراء والتعليق والمتابعة الوفية، أو حتى من خلال التنويه والتحية.

· إن نظام القراءة الافتراضية نظام مغشوش لأنه يتجه دائما صوب الأعلى لا صوب الأدنى وصوب الظاهر على سطح المدونة أو الموقع لا إلى ما وراء ذلك من الصفحات المطوية. وبعبارة أخرى فعيون القراء الافتراضيين تتجه دوما صوب الجديد لا صوب القديم. لأن مبدأ الطراوة هو المبدأ المعمول به في سوق القراءة الافتراضية تماما كما في الأسواق التجارية العادية حيث تكون أنظار الزبناء مركزة على تاريخ الإنتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية.

· وطراوة التعليقات الافتراضية من طراوة الإدراجات والموضوعات الافتراضية أيضا، وكلما تطاول العهد بالإدراجات إلا وقلت التعليقات حتى تتوارى بعيدا في حيزها الافتراضي لتصبح نسيا منسيا إلى أن ترشد إليها محركات البحث عبر الكلمات المفتاحية فتنعشها وتنفخ فيها روح الحياة من جديد. وهذا بخلاف واقع القراءة الورقية التي يظل وضعها متراخيا في الزمن.

· من المدونين من يفضل أن يترك مدونته غـُفلا بلا ملامح واضحة اختيارا وليس اضطرارا، إما من باب الاحتياط والتقية المفرطة، وإما لدرء الشبهة عن نفسه، أو ليقطع الطريق عن أي أحد من الناس يمكن أن يواجه في يوم من الأيام في مقهى أو في الشارع العام بهذا السؤال: هل أنت فلان صاحب المدونة الفلانية…؟ !

· وإذا كانت مشاكل عالمنا العربي قد أخذت وقتا طويلا من الزمن حتى تفاقمت وتعقدت على النحو الذي هي عليه في الواقع فإنها لم تحتج إلا لسنوات معدودة على رؤوس الأصابع لتنتقل من مستواها الواقعي ذاك الراسخ على الأرض العربية بالأسباب والنتائج إلى مستواها الثاني الافتراضي، وهذا بعد أن انتشرت حُمى التدوين الرقمي في الأوساط العربية المختلفة كانتشار النار في الهشيم.

· مشاكل التدوين العربي منفردة أو مجتمعة جزء لا يتجزأ من مشكلات حقيقية واقعية موزعة بمقادير تكاد تكون متساوية على مجمل الأوطان العربية.

· ومما لا شك فيه أن حل أي جزء من المشاكل الحقيقية العربية على أرض واقعنا الحقيقي يتبعه بالضرورة أثر مماثل على مستوى واقعنا الافتراضي، مما يؤدي إلى مزيد من الانفراج في الزوايا الافتراضية المتفائلة التي يطل منها المدونون على عموم الناس قراء وزوارا ومعلقين.

· أخيرا وبعد انتظار طويل، تحقق الأمل الذي انتظره المدونون العرب من كوكل لدعم اللغة العربية؛ حيث أصبح في الإمكان وابتداء من منتصف شهر يناير 2008 تغيير واجهة البلوغر التابع لكوكل، لتصبح اللغة العربية،لأول مرة، من الخيارات الأساسية المتوافقة المتاحة للتدوين على هذا الموقع المشهورعالميا.

· هناك تقارب متزايد بين التدوين والصحافة في الآونة الأخيرة. وهو تقارب يمكن أن نرصده من جهتين: من جهة تزايد إقبال منابر الإعلام المختلفة على متابعة حركة التدوين العربي والتعريف بها وملاحقة قضاياها السياسية والحقوقية والأخلاقية. ومن جهة التحاق كثير من المدونين للكتابة ببعض الجرائد الورقية أو الإلكترونية؛ بل إن من المدونين من تخلى عن مدونته الأولى لينشئ بمجهوده الخاص أو بمجهود مشترك مجلة ورقية أو إلكترونية مستقلة.

· إن التعدد الثقافي واللغوي في مشهد التدوين المغربي ظاهرة طبيعية وصحية تجد تفسيرها العميق في التعدد الجغرافي والمناخي الذي ينعكس على سحنة المغاربة وعلى لون بشرتهم، ويؤثر بشكل كبير في لكنتهم وحتى في عاداتهم وطباعهم وأمزجتهم.

· تعمل وسائل الاتصال الرقمية الحديثة على تشكيل وعي ولاوعي إنسان هذا العصر إلى درجة قد تجعله تائها مأخوذا بسحرها وجاذبيتها معظم الوقت، وتذهله عن نفسه وعن أقرب الناس إليه. وكثيرا ما أتساءل مع نفسي: ماذا سيكون مصير الفرد منا لو قدر له في لحظة من الزمن أن تلتقط حواسه كل الإشارات الرقمية والموجات الصوتية التي تخترق أثيرنا السماوي عبر أجهزة الآرسال والاستقبال والتجسس والاستشعار دفعة واحدة؟؟… فربما ارتبك الجسم كله أو احترق أو أو تصدع أو تشتت..!! فالحمد لله الذي ألهم الإنسان القدرة على الإبداع ليخلق لنفسه في كل عصر ما يصلح أن يكون امتداد لذاته وعقله من الآلات والوسائط، على قدر مبلغ علمه واجتهاده.

· كل يوم نكتب فيه أو عنه هو ربح معنوي مضاعف لنا، لأن الهدف من كل كتابة أو تدوين، كما أوضحت سابقا في الفئة المخصصة لقضايا التدوين، هو القدرة على التحكم في الزمان وتقييد حركته بين دفتي كتاب لتتصفحه جميع الأيادي أو على صفحة حاسوب متوهجة لتتطلع إليه كل العيون.

· وكنت سابقا قد أطلقت صيحة مدوية مبكرة شاملة إلى جميع الشعوب العربية لتنتهز هذه الفرصة التي أتيحت لنا من أبواب السماوات الافتراضية، لتسجل حضورها المعنوي الخاص على الشبكة العنكبوتية، بعد أن ظل هذا الحضور المعنوي عبر تاريخنا العربي المجيد حكرا على أصحاب السلطة والسطوة والجاه ومن أحاط بهم من الأجراء والمداحين وبائعي الذمم. ولهذا السبب تبدو لي حالة التدوين العربي، في بعض الأحيان، كنوع من رد الفعل على فعل آخر فيما يشبه رد الصفعة والكيل، أو الرغبة الشديدة في التشفي والانتقام من هذا المستبد العربي الذي كان ولا يزال يقف على رؤوسنا ومعه سيف وجلاد، أو حفنة دراهم لامعة.

· مهما حاول كل مدون من جهد، لتتبع حركة الزوار والقراء الوافدين على بيته الافتراضي، ولإحصاء عددهم، وتحديد أماكن بلدانهم أو مدنهم وقراهم كأشخاص ماديين فإنه لا يستطيع أن يحدد دوافعهم ونواياهم كأشخاص معنويين محكومين بالدوافع الإنسانية النبيلة السامية، وربما حتى بالغرائز البهيمية الدونية.

· أكثر المخاوف والهواجس المسيطرة على عقل المدون ومشاعره، عندما يكوم منتسبا إلى المواقع المجانية أن يفيق ذات صباح فيكتشف أن مدونته قد حذفت نهائيا وصارت أثرا بعد عين.

وقد حدث هذا معي مرة واحدة، عندما جربت موقع بلوغ جاهز المغربي، حيث تم حذف نسخة من مدونتي هذه (كلمات عابرة)، ولم أتمكن من استرجاعها أو حتى فهم الأسباب المقنعة لكشطها، ولا زال مكان حذفها أبيض شاغرا حتى اليوم بعد أن كان يتصدر الواجهة، في المفضلة، بين مدونتي: بريد تطوان ومشروع ألف بالراشيدية.

فإننا لله وإنا إليه راجعون…ورحم الله سائر المدونات المجانية التي قد تضيع في الفراغ هباء كأوراق الخريف… !!

الخميس، 22 مايو 2008

قطوف تدوينية: الجزء الأول

أفردت لقضايا التدوين حيزا مهما من مدونتي (كلمات عابرة)؛ إذا تجاوز عدد الإدراجات التي رصدتها للتدوين ولفضاء العوالم الافتراضيةالخمسين، وكنت قد كتبتها تباعا منذ عامين ونصف.

وقد أحببت بهذه المناسبة أن أتخير لزوار وقراء هذه المدونة الكرام بعض العبارات والفقرات التدوينية المتميزة بإشاراتها العميقة إلى جانب واحد أو أكثر من قضايا التدوين المختلفة، وهي مرتبة حسب عمرها الافتراضي من الأعلى إلى الأدنى:



· ربما يكون قد آن الأوان ليُعول أيضا على مجهود كثير من المدونين الذين قطعوا أشواطا متميزة في حقل التدوين الجيد المحكم كمحطات مرجعية لاستكمال دوائر البحث العميق المتخصص في مجال تحليل الخطاب العربي المعاصر، خاصة وأن معظم المدونين الأصلاء يصدرون في الغالب الأعم عن دوافع ذاتية حقيقية أصيلة تضطرهم للبوح والتعبير، وهذا ما يفتقر إليه في الغالب الأعم كثير من الكلام المأجور.

· أصبح التدوين العربي أهم وعاء ثقافي لفهم حقيقة العالم العربي من الداخل والخارج، ومن الأعلى ومن الأسفل، ومن اليمين واليسار ومن كل الأنحاء والاتجاهات والنوازع والرغبات. وإن بدا هذا الوعاء في بعض الأحيان أشبه ما يكون بالمرايا المقعرة أو المحدبة نرى فيها أنفسنا ويرانا فيها الآخرون بأشكال غير الأشكال وأحجام غير الأحجام وألوان غير الألوان.

· ولو كان في وسع كل من يملك حسابا بريديا عاديا أن ينشئ مدونة لتضاعف عدد المدونات العربية مرتين أو أكثر، وهذا ما قد يجعل من أحكامنا على التدوين العربي حتى اليوم مجرد انطباعات وأفكار واقتراحات أولية في انتظار أن يكتمل النصاب العام.

· صحيح، لقد استطاع بعض المدونين أن يلفتوا نظر المواقع الإلكترونية الكبيرة، وربما التحق بعضهم بجريدة أو صحيفة، أو بمحطة إذاعية أو تلفزيونية، وربما وجد بعضهم مقالاته منشورة هنا أو هناك، وربما تمكن البعض من جلب قدر بسيط من المال العائد من بعض الخدمات التقنية الخاصة أو من بعض الإعلانات التي قد يبثها عبر مدونته…. لكن تبقى ميزة التدوين الكبرى أنه المساحة الحرة المتاحة في هذا العصرالرقمي العجيب بسخاء لفك العزلة عن الذات ومقاومة حالة الصمت العربي القابعة في داخل كل واحد منا.

· لا كرم في هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والكماليات أنفع من كلمات صادقة مضيئة نرسلها بسخاء عبر السماوات الافتراضية المفتوحة ليتلقفها من شاء.

· ومرور الزوار الافتراضيين العابرين بالبيوت الافتراضية التي يكون بناؤها من حرف أو صورة أو صوت قد لا يختلف كثيرا عن مرورنا بالبيوت الحقيقية التي يكون أصلها من حجارة وحديد وإسمنت؛ فمن المرور ما يكون بحكم الصدفة، ومنه ما يكون بحكم الجوار والألفة، ومنه ما يكون للإعجاب والإدهاش بسبب غنى المضمون من حيث العمق والرحابة، أو بسبب جمالية العرض من حيث التنسيق والزخرفة. أما اليوم، وبعد أن تكدس البناء على البناء في عالم الحقيقة، فقد جاء الدور على واقعنا الافتراضي لتتكدس المواقع على المواقع والمنتديات على المنتديات والمدونات على المدونات فيما يشبه وفرة الطعام التي قد تصيبنا بالحيرة أو بالتخمة.

· وإن كثرة المدونات لا تعني بالضرورة ارتفاع الوعي بجدوى التدوين وبفاعليته وبقيمته داخل المجتمع العربي، إلا في الحد القليل المفيد منها مما يمكن أن يبقى مع مرور الوقت، ويصمد في وجه عمليات الفرز والتخير والغربلة،

· إن انتظام حضور المدون الراشد الواعي بذاته وبمحيطه، على الساحة العنكبوتية يشعره في كل يوم بمزيد من المسؤولية، ويحثه دوما على النقد الذاتي والمراجعة التصحيحية ليفيد ويستفيد…

· إن التفاوت اللغوي في عالم التدوين العربي يبقى الظاهرة البارزة التي تؤشر على خلل كبير نتساهل في شأنه ونتسامح في حقه في كل يوم، وقلما نبه أحدنا إليه.

· وأنا هنا لا أقلل من قيمة أي مدونة كيفما كانت، لأن كل مدونة تحمل بين طياتها إشارة ما تتطلب نوعا خاصا من الدراسة والانتباه.

· أن تصبح كاتبا افتراضيا معناه أن تتحمل طقوس التوحد والعزلة الانفرادية الصامتة أمام شاشة الحاسوب المتوهجة التي تنسدل عليها حروف تفكيرك وتخييلك وتعبيرك فيما يشبه غزل الصوف الذي يشع بالدفء والحرارة. والكتابة الافتراضية اليوم، بالنسبة لمن يقدر ها حق قدرها، هي العطاء الصادق الذي لا يرجى من ورائه نفع أو أجر. إنها الكرم المعنوي الأصيل المتبقي في زمن الابتذال الجسدي للرجال قبل النساء، وفي زمن الشح والغلاء.

· العوالم الافتراضية كعوالم البحر الخفية؛ فيها من الغنى والعمق بمقدار ما فيها من الضحالة والسطحية. والكائنات الافتراضية كالأسماك والحيتان قد يطلب بعضها بعضا، ويفترس بعضها بعضا، وقد يسبح بعضها إلى جانب بعض، في وفاق وانسجام.

· لا شك أن كل واحد من المدونين قد التحق بالواقع الافتراضي من حيث انتهت تجاربه في واقع الحياة العامة على علاتها المختلفة. فكل مدون يرشح بما فيه عندما يروم رفع جانب من حياته الواقعية إلى السماوات الافتراضية المفتوحة على الدوام. ومع أن هذه حقيقة قد تبدو بديهية ولكن لا يقدرها حق قدرها إلا من خبر مهمة التدوين وأدرك بوعي حجم تلك المهمة وأثرها على المدى القريب والبعيد عندما يعم أثرها الإيجابي أو السلبي في الناس.

· الأسئلة التي نوجهها اليوم إلى التدوين قد تكون هي نفسها التي وجهت من قبل إلى الكتابة عندما استُحدثت لأول مرة في تاريخ التطور البشري الأقلام والمحابر؛ الاستعمال المعاصر لكلمة التدوين انتقل من مستوى التوثيق الخطي عن طريق الكتابة اليدوية على مسطح ورقي إلى التوثيق الرقمي عن طريق نقر الحروف على مسطح زجاجي مشع بالأرقام والحروف والألوان. ومن ثم صار التلازم قويا بين المعرفة والخبرة التقنية المرتبطة بعمل أجهزة الحاسوب وأنظمة تشغيله المعقدة، وفي تنسيق الخطوط وفي حفظ المعلومات واستنساخها واسترجاعها بواسطة الذاكرة الثابتة والمتحركة، أو البحث عنها عبر المواقع الافتراضية المبثوتة على الشبكة العنكبوتية بمساعدة محركات البحث العملاقة. وهو نفسه التلازم الكلاسيكي الذي يكون في العادة بين الكاتب الورقي وما يحتاج إليه من قلم ومداد وقرطاس.
فهل سيتمكن المدونون من انتزاع اعتراف ساحق من مجتمعهم يجعل من عمل التدوين حرفة وصناعة يشتهر بها صاحبها ويعترف له بها في بطاقته الشخصية كما هو حال الكتاب الورقيين؟؟.

الأحد، 18 مايو 2008

تلك الكائنات الشهرية الطبشورية


كم أعجب للكتكوت الصغير الذي ينطلق توا في طلب رزقه وكأنه قد تعلم دروس النقر ولقط الحب قبل أن تنفلق عنه بيضته ويسقط عنه زغبه ويتجدد له ريشه.!!

أما نحن ـ معشر المواطنين العاديين ـ وقبل أن يتحول بعضنا إلى كائنات شهرية في محاضن الوظيفة العمومية وينمو على أكتافنا ليس فقط زغبنا وشيبنا وعيبنا وإنما لحم حكوماتنا الموقرة على حد قول إخواننا المصريين بعبارة أخرى معدلة على مقاس هذا الإدراج ( لحم أكتافنا من خير حكوماتنا ) فقدرنا أن نمضي حياتنا ملتصقين بمقاعدنا عند مكتب أرشيف وإدارة أو حجرة طبشور وسبورة أو بجوار تلفزيون وزارتنا في الداخلية والإعلام في انتظار خبر رفع الأجور هائمين حالمين منكمشين متقوقعين كالطائر الذي قص جناحه يحلم بالتحليق بعيدا في الفضاء الحر ولكنه لا يقدر أن يبرح مكانه.

حياة الكائنات البشرية الشهرية في مغرب اليوم كما الأمس تقوم قواعدها الهشة على راتب هزيل ثابت على حاله كعظم يابس قذف به بعيدا إلى كلب ليوفيه حقه من المصمصة، حتى لا يسمع له لهاث فضلا عن نباح أو يرى له تدفق ريق شهوة أو تكشيرة شريرة تكشف عن قواطع وأنياب.

ومع ذلك يسمى ذلك الراتب في القواميس المتداولة بالمصروف وإن كان ممنوعا من الصرف خارج حدود الأسبوع الأول من كل شهر، وفي حدود الضرورات القصوى للبقاء على قيد الحياة ومكابدة العيش المر فضلا عن أن يقي من بعض صروف غدر الزمان والمكان.

وبين طابور المائدة العائلي المعتاد بحضور جميع من تحت السقف لممارسة طقوس المضغ الحافي الجماعي وطوابير الحياة اليومية الأخرى في انتظار حافلة أو أداء فاتورة أو عد أيام التقاعد الباقية واستيفاء أقساط الديون البنكية يمضي شطر كبير من حياتنا نحن ـ معشر الكائنات الشهرية الطبشورية الطابورية (نسبة إلى الطبشور والطابور) في انتظار الذي قد يأتي ولكنه لا يأتي.

فمن أفق رحابة الوطن العربي وغناه بالمتناقضات في تدبير خيرات ما تحت الثرى وما فوقه تنبع عبودية الاغتراب الوجودي المحكوم بقلة ذات اليد لدى الكائنات العربية الشهرية الطبشورية...!!

وحدها الكائنات المخملية في وطننا العربي تكتفي بجر أذيالها الطويلة بدل أن تنجر إلى الوقوف في طابور العيش والرغيف والغاز والماء والكهرباء والحديد والإسمنت والحمام والمرحاض وهلم طابورا ...

وهي فوق ذلك معفية من سؤال منكر ونكير ومن متابعة جدول حصص التدريس والعطل ومراقبة تقويم الأعوام البسيطة والكبيسة وكبش العيد ونكد العطل الصيفة مع إلحاح ومتطلبات الأولاد...

تلك القلة القليلة من الناس الذين خيم السعد ببابهم ولفتهم النعماء بردائها ...اللهم لا حسد لهذه الفئة المخملية التي تسعد بحظها ولا شماتة بتلك الفئة الطبشورية التي تشقى بنصيبها وراتبها... وهذا على على حد قول أبي العتاهية مخاطبا هارون الرشيد:

أتتك الخلافة منقادة إليك تجرجر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها

ولكن، ما أبعد البون بين رسوم الخلافة وطقوسها وبين رسم الأماني والأوهام بالطبشور الأبيض على سبورة سوداء ..!!

ثم ألم يكن الخليفة العباسي المنصور يقول في خطبته: ( أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وسداده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه. فقد جعلني الله عليه قفلا؛ إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني.)

وما أظن أننا عن أيام العباسيين وعلى عن حكاية أقفال خزائنهم ببعيدين...!!
ـــــــــــــــــ

إدراجات ذات صلة:
يوم الخبز العربي

الثلاثاء، 6 مايو 2008

عندما يصل الإنترنت إلى مجتمع القرية المغربية

الحديث عن قرية " الإنترنت " بدلالتها الكونية المتسعة المعولمة شيء والحديث عن وصول الإنترنت إلى قرية من القرى المغربية النائية المحدودة المعزولة في الزمان والمكان شيء آخر. فكيف يمكن لهذين الواقعين المتباعدين المتناقضين أن يجتمعا ويلتئما في عقول القرويين المغاربة البسطاء الذين جل متاعهم من حطام الدنيا بيت من قش وطين وبيدر وكومة تبن وبضعة حيوانات يقاسمونها عيش الحياة ومرها في الخصب والوفرة وفي الجفاف والقسوة؟!.

وكيف يمكن لقرى مغربية متواضعة رابضة في السهل أو معلقة في قرون الجبال الوعرة أن تستوعب مجرى وادي السليكون العظيم، وهي التي قد لا يتوفر معظمها على مجرى مياه عادية أو أقل من عادية كافية لإرواء ظمأ القرويين وظمأ ما في عهدتهم من أبقار وأغنام وأرانب ودجاج وبغال وحمير ..؟!!...

صحيح لقد مكن مشروع الحكومة المغربية لكهربة القرى المغربية بمساعدات دولية خارجية من إضاءة البيوت القروية بالمصابيح بدل قنديل الزيت أو مصباح الغاز(اللامبا)، غير أن هذا المشروع لن يكون مجديا إلا إذا كان مصحوبا بمد أنابيب المياه الصالحة للشرب ووصلها بكل القرى والمداشر النائية. فحاجة القرويين في هذه السنين العجاف إلى الماء آكد وأولى من حاجتهم إلى نور كهرباء لا يستغله معظمهم إلا لإضاءة إصطبل حيواناتهم وتفقد أحوالها في جنح الليل أما هم فقد اعتادوا التسلل إلى مخادعهم للنوم لواذا دونما حاجة إلى وضع (الأباجورات) عند يمينهم أو يسارهم.

ومن النتائج المباشرة لكهربة القرى المغربية وصول (البارابول) وانتشار الأطباق اللاقطة على البيوت القروية الواطئة وتزايد إقبال فتيات القرية الشابات على المسلسلات المصرية والسورية والمكسيكسية وحتى التركية إسوة بشقيقاتهن في المدينة. وقد بدأ الحديث عن أبطال المسلسلات الوسيمين والوسيمات يأخذ حيزا كبيرا من وقتهن عندما يجتمعن للسقي عند العين أو يسرحن بقطعان ماشيتهن في البراري.

أما النساء والرجال القرويون المكتهلون والطاعنون في السن فلا زال عندهم بقية ميل قوي إلى تتبع أخبار الملك (سيدنا) ونشرة الطقس وسهرة السبت والمسلسلات المغربية التي يغلب عليها الطابع القروي من قبيل مسلسل (وجع التراب) الذي حاز على نسبة مشاهدة عالية في الأوساط القروية المغربية.

أما الشباب القرويون فقد أبانوا عن ولع خاص بتتبع جديد ذبذبات القنوات الفضائية وطرق برمجتها، وضبط توجيه أطباق الالتقاط مما قد لايستطيعه بعض شباب الحاضرة. وتلك مهارات فطرية كونوها لأنفسهم من فرط عادة ملامستهم اليومية لطبق الاستقبال ولأجهزة التحكم الرقمية ولفراغ البال. وفي العادة فإن شباب القرية هم المتحكمون في جهاز(الريموت كنترول)، وهم يقبضون عليه قبضة حديدية درء لكل ما من شأنه أن يخدش حياء أو يسبب حرجا أخلاقيا، وخاصة عندما يجتمعون مع أفراد عائلتهم في أوقات الأكل أو عند الفراغ من الأعمال الفلاحية الروتينية، ويكون إلى جانبهم الأمهات والأخوات والخالات والعمات. على عادة القرويين في الالتئام الشديد عند الأكل وعند الأتراح والأفراح.

ومع انعدام وجود الهاتف الثابت بمعظم القرى المغربية غير أنه قد تم تعويض هذا النقص بالهواتف النقالة، إذ لا تخلو معظم البيوت القروية من هاتف نقال واحد أو أكثر. ومعظمها لا يستعمل إلا لتلقي المكالمات الهاتفية الخارجية الواردة عليهم من أبنائهم الذين غادروا القرية للعمل بالمدينة أو هاجروا إلى أوربا بطريقة شرعية أو سرية.

وبما أن تغطية الاتصال الهاتفي بالقرى المغربية تكون في الغالب ضعيفة فإن للقرويين طرقا خاصة ابتكروها للإبقاء على حرارة اتصال هواتفهم النقالة؛ ومنها أنهم يعلقون هواتفهم عند نقطة أو زاوية مرتفعة بمقدار معين عن سطح الأرض من ركن البيت أو باحته، وإن اقتضى الأمر فعلى عمود مرتفع أو غصن شجرة، وذلك في انتظار رنة قد تأتي وقد لا تأتي.

وأخيرا وبعد تأخر طويل جاء الدور على قرية الإنترنت العجيبة لتحل ضيفة على بعض القرى المغربية كخطوة أولى محتشمة وذلك بعد أن تم اعتماد الإنترنت اللاسلكي من قبل بعض الشركات الخاصة المحتكرة لسوق الإنترنت في المغرب.

وعندما زرت قريتي في المدة الأخيرة لم يثرني إلا حديث أهلها من الشباب وحتى من الكهول عن العوالم الافتراضية لأول مرة؛ فلم أعد أسمعهم يتحدثون عن أخبار الجزيرة والعربية وعن نتائج المباريات في القنوات الرياضية المشفرة كما في السابق، وإنما صرت أسمع لهم حديثا عن كوكل وياهو وأن معظم شباب القرية قد فتح له حسابا بريديا وأن معظمهم قد تعلم فن الإبحار عبر المواقع في مقهى قريتنا الطينية التي تحولت بين صبح ومساء إلى مقهى إلكترونية تتوفر على حاسوبين نقالين وعلى جهازين لاسلكيين للربط بالشبكة العنكبوتية، وأن فلانا الفلاني قد غمزت صنارته الافتراضية فاصطاد، وهاهو يتواصل مرة في الأسبوع مع امرأة أمريكية. وقد تواعد معها على الالتقاء هنا في القرية في الصيف المقبل. فقد أظهرت تلك السيدة رغبة قوية في زيارة قريتنا التي تنعتها في رسائلها بالجنة وينعتها شبابها العاطل بالحفرة في انتظار من يخرجهم وينقذهم منها، حتى لو تم ذلك على يد عجوز أمريكية شقراء شمطاء تطل ذات يوم كطائر الفينيق الخرافي لتنتشلهم وتحلق بهم بعيدا عن وجع تراب القرية.