الجمعة، 12 سبتمبر 2008

ملحمة افتراضية

لك أن تحلق ما شئت عبر السماوات الافتراضية كأي قمر اصطناعي معلق في مداره البعيد بين السماء والأرض ليبث أو ليلتقط أو يتجسس..

ثم لك أن تقع على أي موقع إلكتروني تختاره لترتشف وتتزود وتلصق ما شئت من حروف وكلمات وأصوات وظلال وألوان وصور ثابتة أو متحركة في ذاكرتك الافتراضية، لكن إياك وإياك أن تصطدم بالألغام المدسوسة عند الطرق والمنعطفات الرقمية السيارة، فربما تسبب لغم فيروسي في إتلاف تلك الذاكرة التي طالما عملت على إنمائها شيئا فشيئا بالنسخ والرفع والتحميل.

لقد أضحى أكثرنا اليوم يعول على ذاكرته الرقمية المختزلة في شرائح متناهية الصغر والدقة بدل ذاكرته الطبيعية المودعة في جمجمته بين شحم ولحم، وعظم ودم.
وقديما كان أجدادنا يقللون من شأن الأشخاص الذين يعولون فقط على مطالعة المخطوطات والكتب اقتناعا منهم بأن العلم الحقيقي هو ما وعته العقول وحفظته الصدور ورددته الحناجر عن ظهر غيب، وربما عيروهم بكلمة (صُحفي) أوبما يدخل تحت معناها من كلمات أخر.

أما اليوم فإن مجال التباهي بين كثير من الناس يكاد ينحصر فيما يستطيع أن يحوزه كل واحد منهم من أحدث أجهزة العرض والقراءة الرقمية ذات السرعة العالية ومعدات التخزين الافتراضي ذات السعة اللامتناهية، مع أن كثيرا من الناس الآخرين أيضا لا زالوا يتوجسون شكا وخيفة من العوالم الافتراضية ويأخذون بمعطياتها على مضض، ومن باب الاستئناس فقط. فهل نقول عن هؤلاء إنهم افتراضيون في مقابل من هم صحفيون أو ورقيون، وهل بين ما تحفظه الصدور أو صفحات الكتب الملساء وشاشات الحاسوب المضيئة من فرق؟ المعرفة تبقى معرفة، والشعر يبقى شعرا في الصدر أوفي السطر أو فيما بينهما من وسائط رقمية لا تعد ولا تحصى.

كم مرة في العام تحتاج إلى صيانة أجهزة حاسوبك الشخصي وتجديد أو تحيين برامجه. وربما دفعتك الضرورة القصوى إلى (فرمتته) لتنمكن من تنظيفه وتطهيره من كل الأوضار الرقمية، وتفك عنه أغلال العوالق والطحالب الفيروسية التي كبلت مجدافه وعطلته عن الإبحار، فلربما تجدد له نشاطه وانتعشت ذاكرته المخترقة من جديد...

في كل مرة تذهب فيها إلى أي ورشة لإصلاح الحواسيب لا تجد غير مزيد من الصناديق الرقمية محتلفة الأشكال والأحجام يتراكم بعضها على بعض، وربما لبثت أياما وشهورا في الطابور الرقمي تنظر دورها في الكشف والإصلاح.
آفة حياتنا الرقمية أنها تقف على طرفي نقيض؛ فلا تكتمل دورتها إلا بالبرامج والبرامج المضادة تماما كحياة الناس العادية التي لا تستقيم إلا بوجود الخبيث والطيب والعدو والصديق والعالم والجاهل والمؤمن والكافر وهلم اختلافا وضدا..

كل برنامج إلكتروني يطلب برنامجا آخر أو يدفعه أو يقاومه أو يتجسس عليه. إنها حرب افتراضية لا تتوقف رحاها عن الدوران وضحاياها المتساقطون على أرضها مزيد من الأجهزة الإلكترونية المعطلة والنفايات الرقمية المتراكمة المضرة بالصحة والبيئة، وأبطال هذه الملحمة الرقمية العجيبة من مبرمجين ومهندسين وتقنيين وقراصنة ومستعملين عاديين متوارون خلف أجهزتهم. وهم فقط يكتفون بتحريك أناملهم لضغط الأزرار، ولا يحتاجون إلى سيف أو مسدس أو رشاش للإطاحة برؤوس ضحاياهم ، أو لسلبهم ونهبهم، أو تعريض مصالحهم لأنواع شتى من الأذى والضرر.

يتطور عقل الإنسان وتبقى أفعاله نفس الأفعال، فلا فرق بين التلويح بالسيف أو التهديد بقنبلة، أو فيروس رقمي ما دامت النتائج والآثار السلبية واحدة...

ليست هناك تعليقات: