الجمعة، 19 سبتمبر 2008

بين التدوين والسياسية قيدُ شَعْرة

منصة التدوين كمنصة المطابخ ذات الرفوف والأواني والقدور الكثيرة، وإعداد الإدراجات اليومية كإعداد الوجبات الغذائية الطازجة.

ومبدأ الطراوة هو المبدأ المعمول في التداول الافتراضي تماما كما هو الحال في عالم التداول الغذائي، أو عالم نشرات الأخبار السياسية الحية الساخنة على الدوام غبر قناتي: الجزيرة والعربية.
ومن هنا فإن الخيط الرابط بين التدوين والسياسة رَفيعٌ جدا كالشعرة الواقعة سهوا من رأس الطباخ عند تحريك القدر أو دلك العجين. ومن منا لا يعرف قبعة الطباخ البيضاء التي لا تشبهها أية قبعة أخرى.!!

وفي المطاعم التي تحترم شعور زبنائها المُجتبينَ من عِلية القوم سريعي التقزز والغثيان يصبح حمل تلك القبعة المطبخية العجيبة في شكلها ونقشها ضربة لازب على رأس كل طباخ أو نادل أو مستخدم حفاظا على استقرار معدة الزبناء المحترمين.

وكثير من المدونين يطلقون العنان للوحة مفاتيحهم الإلكترونية من غير قيد أو شرط، ولا يعبأون بما وراءها من خيوط استشعار حكومية ومجسات إلكترونية خفية، ولا يهتمون لأمر القبعات المطبخية ولا العوازل التدوينية الواقية. فيتساقط على صفحات مدوناتهم كثير من الشعر وكثير من قِشرة جلدة الرأس المحموم وبثوره الطافحة المقززة والمستفزة.

لقد أصبحت الإثارة السياسية والدينية والإباحية أقرب طريق لإثارة الانتباه وتمهيد الطريق نحو الشهرة في بيئة التدوين الافتراضي العربي في هذه الأيام؛ والدليل على ذلك أن المدونات التي وجدت لها طريقا إلى نشرات الأخبار أو أقفاص الاتهام والمحاكم العربية هي تلك التي شهَّرت أو حرَّضت أو أخلَّت بالاحترام الواجب في حق رموز السلطة العربية المهيبة.

إن التدوين العربي بعيدا عن شبهة التسطيح والفتنة والإثارة والغوغائية الفجة يبقى من أعقد وسائل التعبير المستحدثة للتعبير عن أزمة غياب التوافق بين ذات المدون ومحيطه العربي، وللتنفيس عن كل ما يختلج في دواخل كل مدون من دواعي القهر المتراكم والمتوارث على مدى أجيال وقرون عدة. ولو تم ذلك التعبير فقط من ريق بعض الكلمات الرصينة الملمحة العابرة من هذا الوقع أو ذاك.

ولا ننسى أن اغترار كثير من المدونين الشباب بشعارات حرية الرأي ومبادئ احترام حقوق الإنسان البراقة المعلبة والمعولمة التي تروج لها الحكومات العربية لتحسين صورتها من الخارج عامل آخر يعزز لديهم بعض الثقة الزائدة التي قد تبلغ بهم حد التهور أحيانا والتمادي في التعبير إلى أقصى منتهاه.

كما أن احتضان بعض المواقع الإلكترونية الكبيرة وبعض الجرائد الإلكترونية لكتابات بعض المدونين الشباب عامل آخر قد ينمي في المدون المنتسب الرغبة في التجريب والمجازفة والمغامرة للظهور والتجلي، ربما اعتقادا منه بأن تلك الجريدة سند قوي لظهره، متناسيا عبارة التنصل وإبراء الذمة الموجودة أسفل الصفحة الأولى لكل جريدة إلكترونية تلتقط الأخبار وتجلب المقالات وأصحابها من كل حدب وصوب.

ومن تابع تفاصيل قصة المدون المغربي الشاب محمد الراجي من الاعتقال إلى المحاكمة إلى السراح أدرك أن حبل السياسة في البلدان العربية قصير جدا وقريب منا جدا كحبل الوريد، وإن لم نشعر بذلك، غير أنه قد يلتف على رقبة أحدنا في يوم مضيئ أو ليل حالك.

وما أثار انتباهي في قصة اعتقال المدون محمد الراجي هو صوره الأولى بُعيد اعتقاله وصوره الثانية عند تمتيعه بالسراح المؤقت ثم صوره الأخيرة بعد تبرئته يوم أمس الخميس 18 شتنبر من عام 2008 الجاري.
وقد كانت ملامح تلك الصور في تلك المراحل المختلفة التي تتراوح بين ضيق وأمل وانفراج مختزلة للمشهد كله وخير معبر عن التفاصيل الحقيقية لقصة هذا الاعتقال الفريد من نوعه في بيئة التدوين المغربية الحديثة.

صحيح أن التفاصيل الحقيقية لهذا الإعتقال ولأوجاعه المكنونة لا يعرفها غير أخينا محمد الراجي، ومع ذلك فقد رشح كثير منها على سيمياء محياه.

وقد تمنى الراجي أن لا يتكرر حدث الاعتقال هذا معه أو مع غيره، كما جاء على لسانه، بعد أن استوعب درس هذا الاعتقال. وربما يكون هذا الاعتقال قد جعله مشهورا ومعروفا أكثر من أي وقت مضى، ولكنه في نفس الوقت قد جعله مكشوفا أكثر من أي وقت مضى، وعليه من الآن أن يحسب لكل خطوة جديدة له في مشوار الكتابة والتدوين ألف حساب، ويغربل كل كلامه بغربال جديد أعمى لا عيون له حتى يمنع وصول شعَره المتساقط إلى عجين مدونته وموادها الكلامية حتى لا تتيهج معدة السلطة أو تتنفض في وجهه من جديد أو في وجوه غيره من طباخي المقالات السياسة عبير المواقع والمدونات. فإياك أعني واسمعي ياجارة.

ليست هناك تعليقات: