السبت، 30 أغسطس 2008

لغز الأزرار

من معاني الزر في اللغة العربية: شَدُّ القميص وهو معروف. كما تطلق كلمة الِزر على العقل إذا كان راجحا؛ فقد روي أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه قال في حق علي عليه السلام يصف رجاحة عقله: إنه ِزرُّ الأرض؛ فسره ثعلب فقال: تثبتُ به الأرض كما يثبتُ القميص بزره إذا شُد به.

وإذن، يُستفاد من معاني الزر في اللغة العربية أمران مهمان: أحدهما مادي يخص تلك الحبة أو الخرزة أو الجُويزة التي تُجعل في عُرى القميص لتُشدَّ أجزاؤه إلى بعضها البعض خاصة عند منطقة العنق والصدر والخصر وعند أطراف الأكمام. أما الأمر الثاني فهو معنوي ويخص رجاحة العقل وثباته وقدرته على الفرز والتحكم.

إن الأزرار، وكيفما كان شكلها أو حجمها أو لونها إنما ابتكرها الإنسان أول الأمر لتكون أداة للتحكم في ثبات الثياب على الأجسام دون أن نغفل لمساتها الجمالية المضافة لاحقا لتتناسب مع ثقافة وأذواق كل زمان ومكان.

أما اليوم فقد تعقدت صناعة الأزرار وتعددت مجالات استعمالاتها ووظائفها الحيوية الضرورية للتحكم ليس فقط في حركة الثياب على الأجسام وإنما للتحكم في حركة الكون كله؛ في زمانه ومكانه، وفي كل مسافة من مسافاته، وفي كل ذبذبة من ذبذباته، وكل نسمة من نسماته. فكل ما في هذا الوجود من موجود أضحى رهينة حركة زر من الأزرار.

وقد جعل الله سره في أضعف خلقه وهو الإنسان.غير أن إنسان هذا اليوم قد جعل سر وجوده وتقدمه في أصغر زر من أزراره.

وقد يعجز أي واحد منا اليوم عن إحصاء لمسات الأزرار التي يستخدمها في يوم واحد من أيامه العادية بدء من أزرار الهاتف النقال مرورا بأزرار أجهزة التحكم عن بعد للمستقبلات والمشغلات الرقمية المسموعة والمرئية مرورا بالشبابيك والدكاكين الإلكترونية الآلية لسحب بضعة أوراق نقدية، أو فنجان قهوة ساخنة أو مشروب بارد أو حتى قطعة علك أو جريدة ورقية .. ثم انتهاء بأزرار التحكم لإغلاق الأبواب وإطفاء الأضواء عند الخلود إلى النوم، لنصبح على زر ونمسي على زر. إنها فعلا حياة مليئة بالأسرار والأزرار.

وربما لم يُلق أحدنا بالا إلى سلوك التعامل اليومي مع لمسات الأزرار هذه لما ينطوي عليه هذا السلوك الِزرِّي، إن صح التعبير، من مرونة وسهولة لا تختلفان في قليل أو كثير عن حركة التنفس الطبيعية التلقائية.

وأنا أيضا لا أعلم بالضبط كما عدد اللمسات الزرية المُوجبة المُثبتة التي استغرقها هذا الإدراج لكتابة كل حرف من حروفه حتى يكتمل على صورته النهائية، أما اللمسات الزرية السالبة الملغاة فهي أكثر من أن تعد أو تحصى. وقد سقطت كلها عبثا في الفراغ الإنترنيتي...

ترى كم عدد اللمسات الإلكترونية التي تستخدمها الكائنات الافتراضية على مدار اليوم للأبحار في يم النت العظيم أو لمجرد تصفح البريد الإلكتروني اليومي...؟. لا شك أنها بعدد الثواني التي تمضي من عمرنا، أو ربما كانت أكثر... !!

نقول هذا الكلام رغم ما قد تنطوي عليه الأزرار من خطورة ولعنة عندما يتعلق الأمر بإشعال أزرار الحروب السياسية والاقتصادية وحتى الإلكترونية؛ إما انطلاقا من أزرار البوارج والمدافع ومنصات إطلاق الصواريخ العابرة للقارات، وإما انطلاقا من أزرار التحكم في صبيب أنابيب البترول والغاز أو حتى صوامع القمح والقطاني والحبوب، وإما ببث البرامج الرقمية الفيروسية المموهة للاختراق والسطو على المعلومات والبيانات السرية للأشخاص والشركات وحتى الحكومات.

أما أزرار القنابل النووية الموقوتة لأجل موعود، والمعامل الكيماوية وأفران الطاقة الذرية العالية، فتلك وإن كانت أزرارها في عهدة المواثيق الدولية فإنها ليست بمنجاة من السهو أو من أي حركة عشوائية.

لقد كان يقال إن كرتنا الأرضية على كف عفريت أو قرن ثور أما اليوم فقد صارت بعد مشيئة الله عز وجل في عهدة زرين من الأزرار؛ أحدهما أحمر للسلامة والأمان والأخر أحمر لسوء المقلب والحدثان.

ليست هناك تعليقات: