الثلاثاء، 23 مارس 2010

الحائط الإلكتروني؛ طريقة جديدة للتواصل المختصر (الورقة الثانية).

الورقة الثانية: في المفهوم التواصلي

لتقنيات التواصل الحديثة قدرة سحرية عجيبة على إلغاء مفهوم المكان من الأذهان؛ فلا الشرق عندها شرق ولا الغرب غرب، وكل خطوط الطول والعرض صارت مجتمعة لديها في حيز واحد، هو حيز شبكات وخيوط وحبال الاتصال العالمي البرية والبحرية ودوائر السليكون وترددات الأمواج الكهرومغناطيسية التي يزدحم بها أثير السماء.

يبدو لي أحيانا كأن زماننا هذا قد ضاق برفيق دربه المكان، فلم يعودا قادرين على تحمل بعضهما البعض، وكل واحد منهما يرجو الفكاك والافتراق ليمضي في حال سبيله متحررا من وطأة صاحبه.
ومن هنا فإن أزمة التواصل الحديثة لا تكمن فقط في عباءتي الزمن والمكان التي تضيق بنا أو نضيق بها حينما نلبسها أو تلبسنا، وإنما أيضا في الدور المزدوج للعملية التواصلية الحديثة التي تتطلب منا أن نكون مرسلين ومستقبلين في نفس الوقت، فلا معنى ولا قيمة لهاتف ثابت أو نقال، أرضي أو فضائي، إذا لم يوجد في الطرف الآخر من خط هاتفنا من يقوم بنفس دورنا، وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تحفة تقنية مكملة لديكور البيت، ولك أن تقيس هذا المثال على سائر الوسائط التقنية الأخرى…

وحتى أنظمة التواصل الكلاسيكية الحكومية الممعنة في البرتوكول والرسميات كالراديو والتلفزيون، بدأت تغير جلدها تدريجيا لأنها وجدت نفسها مضطرة إلى التخلي عن دورها القديم أحادي الاتجاه الذي كان يقتصر على البث فقط। وأصبحت لأول مرة تنزل هي الأخرى بمبعوثيها وبالكاميرا والميكروفون إلى الشارع لتستقبل رأي الشارع وصورة الناس البسطاء ومتجددات الحياة العادية والاستثنائية والطارئة.

إن ازدحام شبكة الاتصال العالمي بالمرسلات السمعية والبصرية، يحتم على مستعمليها استحداث طرق وأنظمة عديدة لاختصار تلك المرسلات وطيها مثنى وثلاث ورباع كما يطوى ويثنى الورق على بعضه البعض حتى يصير متناهيا في الصغر..
وقد يطول بنا الحديث إذا وسعنا دائرة البحث في أنظمة التواصل المختصر من قبيل الرسائل النصية الهاتفية القصيرة (SMS)، وأنظمة الدردشة الفورية عبر المواقع الإلكترونية بأبجديتها المعقدة وأيقوناتها المختزلة للمشاعر والأفكار والمواقف، دون أن نغفل أيضا الأشرطة المنسدلة بالطول والعرض وفي كل الاتجاهات على شاشات البث التلفزيوني الأرضي والفضائي، المركزية والجهوية، الحكومية والخاصة… وكل نظام من هذه الأنظمة يتطلب دراسة خاصة.

غير أننا خصصنا هذا الإدراج للحديث عن الحائط الإلكتروني باعتباره طريقة جديدة للتواصل الافتراضي المختصر:
فإذا افترضنا أن المواقع الإلكترونية بيوت خاصة، وأن مفاتيح الولوج إليها تكون بأيدي أصحابها كما أوضحنا ذلك في إدراج سابق، فإن الحائط الإلكتروني لكل موقع أو مدونة أو منتدى هو الجزء الهامشي الخارجي المتاح للزوار حيث يمكنهم أن يسجلوا مرورهم بإضافة تعليق أو تنبيه أو إشارة أو أي حشو بلا معنى أو أي أثر آخر مفاده: (لقد مررت من هنا)، ولو تم ذلك في أحيان كثيرة ببعض الكلمات والعبارات الممتزجة بالسخرية والتحرش والبذاءة، والمغلفة بكثير من الأحقاد الدفينة والأمراض الاجتماعية المتمكنة والعلل النفسية المزمنة، كما هو الحال بالنسبة للكتابة الحائطية الواقعية التي نراها في الخارج عندما نعبر الشارع العام.

فلا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن عوالمنا الافتراضية مليئة بالمرضى والسكارى والمعربدين واللصوص والمطاريد والمتسكعين والمتطرفين والمدمنين والمنبوذين والحمقى والأغبياء بنفس الدرجة التي يكون عليها الأصحاء والمعتدلون والعقلاء والنبهاء والأتقياء والشرفاء إن لم تكن أكثر…

ولو خصصنا يوما واحدا من أيامنا العادية لقراءة تعاليق الزوار العابرين على الجدران والحيطان الإلكترونية لتعرفنا على كثير من الأسرار والنماذج البشرية المختلفة في سلوكها وتصرفاتها وأفعالها وانفعالاتها، وربما عدنا إلى تحليل ودراسة بعض نماذج الكتابات الحائطية الإلكترونية في إدراجات لاحقة.

لكن، هناك جانب آخر إيجابي في هذه الكتابات الإلكترونية الحائطية، فضلا عن أسلوبها المختصر، عند الإشارة إلى خبر أو إدراج عنوان مقال أو رابط، أو التنبيه إلى موعد أو لقاء أو ندوة أو مظاهرة أو استطلاع رأي وغير ذلك من الرسائل القصيرة والإخباريات التي تشبه إلى حد كبير البرقيات في النظام البريدي القديم.

وقد بدأت كثير من المواقع الإخبارية والفنية والثقافية ومن المجلات والصحف الإلكترونية ومواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة تفرد مساحة كبيرة للزوار كي يكتبوا ويتعارفوا ويتواصلوا على حيطانها الإلكترونية الخارجية المكشوفة للعموم بالحرف والصوت والصورة.
والحيطان الإلكترونية نوعان: النوع الأول حيطان جماعية حيث يمكن أن يكتب كل زائر أو عابر ما شاء. وميزتها أنك تستطيع أن تتعرف على أساليب الناس في التفكير وفي فهم الأشياء دفعة واحدة، بحيث تستطيع أن تكون من هذه المختصرات صورة متكاملة عن النوايا والدوافع الكامنة وراء كل كلمة أو جملة أو شعار أو حزمة صور أو رسوم …

النوع الثاني حيطان فردية خاصة بأصحابها فقط، كأن يعمد أحد المدونين مثلا إلى حائط خارجي بعيد عن مدونته ليسجل عليه عناوين ومقترحات وروابط ومختصرات لأنشطته الخاصة في الحياة وفي العمل وفي الكتابة والتدوين। وهذا الحائط الإلكتروني الخاص أشبه ما يكون بدفتر يومي لكنه مفتوح أمام أصدقائه وزواره على مدار الساعة ليتابعوا مختلف أنشطته التواصلية مهما كانت بسيطة وعادية؛ كأن يخبر مثلا عن موعد سفر شخصي أو يذكر اسم كتاب فرغ من قراءته أو يقدم اعتذارا أو يستدعي مجموعة من الأصدقاء…وغير ذلك من متجددات الحياة اليومية.
وأكثر المدونين العرب إنما انتسبوا إلى موقع (تويتر) و(فيس بوك) وغيرها من مواقع التدوين المختصر المتخصص ليُعرفوا أكثر في محيطهم الافتراضي.

ومن هنا تأخذ الحيطان الإلكترونية هذا البعد الإشهاري الذي نجده أيضا على واجهات المحال التجارية الفخمة وفي كل ما يحيط بنا من جدران عندما تضيء بالليل لتشع بالحروف والصور والألوان في حركات ضوئية متناسقة، وحتى في سياج المستطيل الأخضر لملاعب كرة القدم عندما تقفز منه الصور والكلمات في حركات بهلوانية رشيقة بديعة قد تذهلك أحيانا عن حركة الكرة التي تتقاذفها وتتلاعب بها أقدام كبار اللاعبين المحترفين.

الجمعة، 19 مارس 2010

الحائط الإلكتروني؛ طريقة جديدة للتواصل المُختصر (الورقة الأولى).

الورقة الأولى: في المفهوم اللغوي للحائط وما جاوره.

إذا رجعنا إلى قواميس اللغة العربية نجد أن كلمة الحائط وردت بمعان ودلالات تقترب مما تفيده كلمات الجدار والسور والسياج، لأنها جميعها لا يمكن أن تسمى بهذه المسميات إلا إذا كانت محيطة بشيء ما أو مشتملة عليه. وإنما تختلف كل واحدة منها عن الأخرى فيما يمكن أن تحتمله من درجات القوة والعلو والمنع والامتداد والعمق أو التجدر في الأرض.

وإذا كان السياج هو الأضعف والأوهى في سلسلة هذه المسميات فإن السور هو الأعظم والأفخم؛ فهناك فرق شاسع بين سور المدينة العالي السميك المتماسك بالحجارة والطوب والجير وسياج الحظيرة الذي يتخذ في العادة من الشوك أو الهشيم.

ولا تسمى الحديقة حديقة إلا إذا أحدق بها أو أحاط بها حائط يمنع الآخرين من تسلقه أو تََسَوٍُره لنهب ما فيها من خضر أو فواكه। ولذلك قد تسمى الحديقة أو البستان مجازا بالحائط من باب التوسع في اللغة العربية، فيقال مثلا: حائط فلان يقصدون بستانه، أما إذا كان البستان من غير سور فهو ضاحية، ومنه ضاحية المدينة، أي: ناحيتها مما يكون خارج السور.

قال عز وجل:( فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب) سورة الحديد، آية 13، إذ شبه الله عز وجل الحاجز بين أهل الجنة وأهل النار بأعظم وأفخم حائط يمكن أن نراه في الدنيا.

ولكل سور أو حائط أو جدار ظاهر وباطن، أو وجه وظهر مثل أي مسطح ورقي صالح للكتابة। أما السور والحائط فظاهرهما هو ما يراه الناس بأعينهم من الخارج فيكون ما بدا منهما شأنا عاما، أما الداخل والباطن منهما مما توارى عن العيون فهو شأن خاص ولا يمكن معرفته إلا بالاقتحام والاختراق، ومن ذلك جدران الغرف داخل البيت الواحد مثلا. ولولا وجود الحيطان لما طمح أهل الفضول والمتطفلون إلى التجسس…

وقد تستخدم هذه الكلمات بصيغ اشتقاقية مختلفة وفي سياقات مجازية। وقد ورد كثير منها في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى (والله محيط بالكافرين) البقرة أية 19؛ أي جامعهم يوم القيامة. وقوله تعالى: (أحطت بما لم تحط به) سورة النمل آية 23: أي علِمته من جميع جهاته، (وأحاطت به خطيئته) البقرة 81 : أي مات على شركه…

أو كقول بعضهم في لغة التحليل الاقتصادي مثلا: (الضرائب الحائط القصير لدى الحكومات الفاشلة)، وفلان حائط قصير: أي سهل التجاوز، ومنه قولنا في التعبير عن الخوف من الرقباء: (للحيطان آذان).

ويمكن في نفس السياق أن نورد أمثلة مرتبطة بدلالات الجدار المجازية كالجدار الرابع في لغة أهل المسرح. وهو الحاجز الوهمي الذي يكون بين الممثلين على الخشبة وجمهور الممثلين في الصالة। وقد قاد المسرحي الألماني الشهير برتولت بريشت ثورة عنيفة ضد المسرح الكلاسيكي لتحطيم هذا الجدار، عندما وجه كامل عنايته إلى الجمهور وأشركه في التمثيل والحوار فأصبح منفعلا وفاعلا في الحدث المسرحي بدل أن يكتفي بالتفرج من بعيد. ويقوم مسرح بريشت، كما هو معروف لدى المهتمين بالمسرح الطلائعي في النصف الأول من القرن الماضي على فكرة التغريب؛ أي تغريب الأحداث اليومية العادية وذلك بجعلها غريبة ومثيرة للدهشة ومحفزة على التأمل والتفكير.

كما يمكن أن نتحدث في نفس السياق عن جدار العار أو جدار الفصل العنصري بين بني البشر: كما كان الحال في جنوب إفريقيا، وكما هو الحال اليوم في فلسطين المحتلة وفي كل أرض عندما يكون النزاع قائما على التفرقة بين اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو أية ذريعة أخرى لطمس هوية الآخر.

كما أننا لا يمكن أن نغفل الحديث هنا عن الجدران والحيطان التي صنعتها الطبيعة بفعل عوامل التعرية من مطر ورياح وسيول وترسبات وانجرافات وزلازل وبراكين।وقد جرى الحديث في معاجم اللغة العربية عن الصوح، (بفتح الصاد وضمها): ويقصدون بهذه الكلمة وجه الجبل القائم أمامنا كأَنه حائط، وصُوحا الوادي: حائطاه المنتصبان كذلك.

ومن المسميات الجديدة المستحدثة في عصرنا مما يرتبط بالتحولات السياسية والاستراتيجية الجدار الفولاذي الذي أقامته الحكومة المصرية الحالية بينها وبين قطاع غزة، والجدار الإلكتروني الذي تعمل إسرائيل على إنشائه الآن بعد أن خاب مسعاها في الجدار الكهربائي الصاعق والجدار الإسمنتي العازل.

غير أن الحيطان لم ترفع قواعدها من الأرض ومنذ فجر التاريخ لتأمين السلامة والحماية فقط لأصحابها، بل لقد تحولت مع مرور الوقت إلى معارض وتحف فنية لما تراكم على واجهتها من حفر ونقش وكتابة وتشكيل.

ومجموع ما يعرض ويكتب على الحيطان من نقوش وكلمات وشعارات يمثل اليوم علما قائما بذاته، وهو علم أوفن الكاليغرافي (Calligraphy)، وهو علم تخصصي له علماؤه وأساتذته.

ولقد كانت الكتابة على الحيطان و على شواهد القبور وعلى الحجارة المنتصبة في طريق المسافرين وحتى على جذوع الأشجار شكلا من أشكال التواصل المكاني، لأنه مرتبط ومحصور في حيز جغرافي ضيق لا يمكن نقله أو تحويله.


وتحتاج المصالح البلدية في كل مدينة من مدن المغرب إلى ميزانية سنوية خاصة لتجديد طلاء الأسوار المحيطة بالمدن والأسواق والمؤسسات العمومية، ومحو ما تراكم عليها من كتابات ومنمنمات ورسوم، وخاصة عند حلول المواعيد الانتخابية.

أما الكلام عن فحوى ومغزى ما يكتب على أسوار المدارس وداخل حجراتها وحيطانها وكراسيها وطاولاتها ومراحيضها فتلك قصة أخرى لن تكتمل في تفاصيلها وأبعادها إلا بدراسة نفسية وسلوكية متخصصة। فكثير من التلاميذ يرون في كل ما يحيط بهم من مسطحات امتدادا لسبورة القسم. لكن ليس لاستظهار بيت من الشعر أو حل معادلة رياضية، وإنما لنشر بعض الشائعات حول أصدقائهم ومدرسيهم، وكتابة أسماء النجوم التي يتعلقون بها وخاصة نجوم كرة القدم وأنديتها المشهورة، وربما حتى كتابة بعض البذاءات اللفظية وبعض السخافات والشتائم والسباب، وكثير من الرسوم المخلة بالحياء العام.


ولو كان ما يكتب أو يرسم على هذا الحائط أو ذاك بالطباشير لهان الأمر، ولكن استعمال علب الصباغة البخاخة يجعل هذا المكتوب أوضح للنظر وأبقى في وجه تقلبات المناخ والدهر.
أما ما يكتب على الحيطان الإلكترونية عبر مواقع التدوين والتعارف الاجتماعي فسيكون موضوع الورقة الثانية.

الجمعة، 12 مارس 2010

على هامش اليوم العالمي لحرية الإنترنت.

لعل أهم ما يميز محتوى الإنترنت أن الناس جميعا يوجدون منه على مسافة واحدة. وهي المسافة الفاصلة بين ضغط زر البحث وإظهار المتصفح الإلكتروني أو المحركات الرقمية للمعلومات أو المواضيع المبحوث عنها. وهذا رغم تباعد الناس في المكان حيث يكونون عند أطراف حواسيبهم المتصلة، ورغم تباين ألسنتهم وألوانهم وأعمارهم ومراتبهم، واختلاف أنماط عيشهم وتفكيرهم. وفي ذلك مظهر من مظاهر الكونية المعرفية والديمقراطية الثقافية التي لم تتح للبشرية جمعاء من قبل.

وقد أصبح اجتماع الناس اليوم عند المواقع والملتقيات الافتراضية في السر أو العلانية أسهل من اجتماعهم في الأماكن الحقيقية المعلومة لدى الدوائر الحكومية؛ إما للدردشة والتسلية أو للمحاورات والمناظرات العلمية والثقافية الجادة، وإما للتنديد والنضال ضد أشكال القمع والفساد والاضطهاد والطغيان والاحتلال، وإما لجمع التوقيعات والتبرعات والمؤازرة، وإما للإثارة والفتنة، وإما لحبك خيوط جرائم التجسس والسطو والمؤامرات والاغتيالات وحتى للعهر والفجور أو الزهد والعبادة. فلا معنى للحياة الافتراضية إلا بوجود الشيء ونقيضه في نفس الوقت، كما هو حال حقيقتنا على أرض الواقع بحلوها ومرها، وبخيرها وشرها، وبصلاحها وفسادها.

فكم عدد المواقع والمدونات والمنتديات التي تتناسل في كل يوم من غير حاجة إلى تصريح رسمي أو فرمان حكومي؟، وكيف يمكن للمتابع العادي وحتى للحكومات بأجهزة رصدها المختلفة أن تجد الوقت والجهد الكافيين لإحصاء كل ما تراكم في العقدين الأخيرين في جوف الانترنت من كل غث وسمين، وتتبع كل شاردة وواردة فيه من حرف أو رمز أو صورة، فضلا عن إمكانية تنظيف محتوى الإنترنت من الأوساخ والعوالق والطحالب قبل نشر كل هذا الغسيل الافتراضي المتبقي وتجفيفه وتقديمه إلى صفوة الصفوة ونخبة النخبة، كأنقى وأنظف وأسلم ما يكون، حسب مزاج الوصي أو الرقيب، وعبر عمليات الفرز الإلكترونية بالغربال والمصفاة…؟!!.

وتتحرك الكائنات الافتراضية في الغالب في شكل جماعي مثل الطيور التي تقع على أشكالها؛ فإذا قلت لهم: أيًَ المواقع تطرق أبوابها سيقولون لك: من تكون. صاروا يعرفونك من آثار أناملك وهي تدوس الأزرار بدل الأقدام، ومن عناوين الوضوعات التي تقرأ أو تـُقرأ لك، ومن الصور التي تًـراها أو تـُريها. ليس هناك شيء يمكن أن يخفى في بيئتنا الافتراضية، فمغناطيسها القوي يجذب حروف أبجديتها الصغيرة، ولو كانت محشورة داخل جبل عظيم من القش والغثاء.

غير أن المحتوى الافتراضي بكل ما فيه من مألوف وشاذ ومستأنس ومستوحش أشبه ما يكون بالمرعى المهمل وبالغابة الاستوائية المطيرة الكثيفة التي يستحيل معها تعيين ناطور عند كل شُجيرة أو أكمة، أو رقيب على رأس كل مدون أو صاحب موقع أو مقهى أنترنت…
وحتى المدونات التي تبدأ كحالات فردية سرعان ما تذوب في المجموع، عندما تتلقفها محاضن التدوين ومجمعاته ومراصيده، وتتصل مع غيرها من المواقع الصغيرة والكبيرة بعمليات التشبيك الإلكتروني، أوحينما ينخرط أصحابها في هيئات تحرير كبرى كالمجلات والجرائد والصحف والكتب الإلكترونية، أو ينضمون إلى أحزاب ونقابات، أو يلتحقون بصفوف الاحتجاجات والتظاهرات الافتراضية والحقيقية، النظرية والعملية…

وإذا كان بوسع الحكومات أن تضبط إيقاع الحياة في الشارع العام وفي كل بيت، وأن تحصي الرؤوس وما حوت والبطون وما هضمت والألسنة وما نطقت…، وأن تكون أجهزة الأمن لديها بمثابة صمام الأمان الذي يحول دون حدوث أي انقلاب أو أدنى تمرد أو انفلات، فإنها من المستحيل أن تضبط حركة الناس الافتراضيين الهلامية، عندما يجتمعون على هذه الصفحة الإلكترونية أو تلك، أو عندما يرسلون موضوعا أو يفشون معلومة أو يكشفون عن سر أو وثيقة أو يبثون تسجيلات بالصوت والصورة بواسطة هواتفهم النقالة على مدار الوقت والساعة، أو حتى عندما يتسللون لواذا عبر النوافذ والأبواب والشقوق الإلكترونية الضيقة ويفرون من حيز افتراضي إلى آخر متوهمين أنهم لم يتركوا أي بصمة أو أثر.

وحتى إذا ما استطاعت الحكومات أن تحجب موضوعات أو معلومات أو صورا في موقع ما داخل بلد ما فإنها ما تلبث أن تظهر في مواقع أخرى وفي بلدان أخرى بأعداد مضاعفة، فيما يشبه (الغـُميضة) أو لعبة المطاردة بين القط والفأر التي يتسلى بها الأطفال، وتلك اللعبة المشوقة المليئة بالغرائب والمفاجآت لا يمكن أن ينفد مخزونها। فكل ممنوع في دنيا الانترنت مطلوب مرغوب، وقد أصبحت المواقع والبرمجيات الخاصة بإظهار المواقع المحجوبة أكثر فعالية وأكثر انتشارا بين المتصفحين ذوي الفضول العالي والخبرة الكافية لفك عقد وطلاسم الحجب والتشفير، مما يستحيل معه محو أي أثر افتراضي نهائيا وعلى وجه التمام، إلا بإلغاء شبكة الإنترنت من الأصل، وتدمير كل الأجهزة الإلكترونية لدى الناس، ورميها في طواحين الرقابة أو في مزبلتها التاريخية إلى الأبد، وذلك من سابع المستحيلات…

وليس هناك ما يحرك البرك الراكدة في دنيا الإنترنت أكثر من حجب موقع أو مصادرة مدون، وليس هناك ما يبعث على السخرية أكثر من غباء بعض الساسة، وليس هناك ما يثير حب الاستطلاع والفضول أكثر من صور وفضائح المشاهير والنجوم في فن التمثيل والغناء والرياضة وحتى في المجون والخلاعة، وحيث يمكن بضربة حظ طائشة أن يصير المجهول معلوما، والمغمور مشهورا…

فأتفه الأمور وأسخفها وأبلدها يمكن أن تتحول بضغطة زر إلى نكتة إلكترونية وإلى صيد افتراضي ثمين يتهافت عليه البصاصون والفضوليون عبر كل الطرق الافتراضية السيارة وغير السيارة، وإلا كيف يمكن أن نفسر هذا التباين العجيب بين العدد الكثير الذي يتقاطر على المواقع السطحية التي تكشف الفضائح وتعرض الصور العارية وتخاطب الحس والغريزة البهيمية، وبين العدد القليل الذي يحج لماما إلى قلة قليلة من المواقع الجادة العاقلة العالمة..

لقد أعـُلن الثاني عشر من شهر مارس كيوم عالمي لحرية الإنترنت ومكافحة الرقابة الإلكترونية. وفي هذا اليوم بالذات، ولكي يكون لهذا الاحتفال معنى بدأت تتعالى أصوات كثير من المدونين الغيورين وأصحاب المواقع العربية الرصينة ليس فقط للمطالبة بهامش مريح من حرية التعبير الافتراضي، وإنما بدعوة جادة للمساهمة في إثراء المحتوى الافتراضي العربي، من باب المسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا وضميرنا الغائب أو المغيب أولا وتجاه محيطنا المتقلب الذي نعيش فيه ثانيا، وتجاه الأجيال التي ستخلفنا ثالثا. إذ لا يعقل أن نخلف لأبنائنا وأحفادنا مجرد صور عابرة ملتقطة، ونكت فجة ومفارقات وتسالي في الإنترنت وتفاهات في برامج تلفزيون الواقع…

الثلاثاء، 9 مارس 2010

استراتيجيات الكتابة؛ الورقة الثانية.

الورقة الثانية: انتزاع الموضوع.
مع أن ذواتنا أقرب إلى وعينا وإدراكنا وعلمنا من حبل الوريد، فإن انتزاع الموضوعات منها أشق.
وفي العادة فإننا نحكي كثيرا وفي كل حين عن تقلبات أحوال المناخ من حولنا، وعن الغلاء في أسواقنا، وعن حوادث السير على طرقاتنا، وحتى عن ما يجري بعيدا عنا أو في الجوار من كوارث وزلازل ومجاعات وفيضانات وعن كل شيء وحتى عن الفراغ، ولكننا قلما نتحدث عن أحوالنا ولا عن تلك الرجات الخفيفة أو القوية التي تعتمل في داخلنا كبركان خامل، مع أنه متقلب في داخله ومشتعل…

إننا دائما نفضل أن يكون وقع الأحداث والخطوب والأتراح على غيرنا لا علينا، حتى أن كل دول العالم المهددة في خبزها وأمنها ومناخها قد تعلمت أخيرا الدرس وبدأت تنشئ عند كل فاجعة لجنا للطوارئ ووزارات لتدبير الأزمات والنكبات، وكذلك الكلامُ نفضله دوما أن يكون لنا لا علينا، كما في الدعاء المأثور عند هطول المطر الغزير:( اللهم حوالَينا ولا علينا ) وذلك في حديث أخرجه البخاري في باب الاستسقاء.

لقد تعودنا أن نقف في طابور الحياة ونأخذ ما نحتاجه من شُبًَاكها أو نقتات بما تساقط من عيون شِباكها ثم نمضي في حال سبيلنا لنعيش بسلام ولننام وننام حتى نموت وينقطع حِسنا من غير أن نترك أثرا يترتب عليه ألم أو ندم…

لكي تنصت إلى صوتك عليك أن تسكت في داخلك صوت الناس وصوت نشرات الأخبار والطقس وثرثرة المسلسلات الطويلة والأشرطة الصاخبة وأزيز السيارات …। وحتى صوت ذبابة حمقاء تبحث عن حتفها عندما تخترق جدار سمعك الصوتي في حالة استرخاء أو صمت نادر، فتنهض لها بمبيد حشرات رشاش نهضة مفجوع أو موجوع، انتقاما وتعويضا عن الإزعاج الخاطف وبعض الراحة المفقودة…

وحين تنطفئ أضواء الناس في داخلك تلوح أضواؤك متسربلة بألوان قزح الصافية في سماء جمجمتك الصغيرة، حيث تتشابك موضوعاتك وموضوعات الناس والكون، وحيث يمكن إعادة ترتيب كل الأشياء كأنها لم تكن من قبل أو كأنها ولدت من جديد.

ليست هناك عدسة تصوير أدق من مخيلة، ولا آلة أبرع من يد، وكل حدود الكون الفسيح في القرب والبعد والطول والعرض تقع بين طرفيهما.

واللحظة الأولى عند الإمساك بالقلم لانتزاع الموضوعات وصناعة الأفكار هي الأصعب، والخطوة الأولى لاكتشاف العالم عند تعلم أبجديات الحبو والوقوف والمشي هي الأبطأ। ولا يخلو الأمر من رهبة وحيرة، ومن خطأ أو خطر سواء عند انفجار بركان من جوف الأرض أو انطلاق صاروخ منصوب على منصة أو انبعاث فكرة من جمجمة آدمية بحجم بطيخة، لكن لا قعر لها ولا قرار…

والكتابة عن موضوعاتنا أو موضوعات غيرنا أو موضوعات الكون من حولنا، شهادة إثبات على أنها كانت موجودة ومركونة في حيز أو زاوية، والعالم منذ أن كان هو هو وإنما أسماؤه ونعوته وصفاته هي التي تتغير وتتجدد بالنسبة إلى ما هو معلوم منها سابقا، وحتى أسماء الأشياء الجديدة سرعان ما تذبل أمام أنظارنا بسرعة عندما نمل أو نضجر.

وسيبقى حالنا على هذه الأرض كما هو، وحال الأشياء فيها سيبقى مترددا بين قديم وجديد، وقديم جديد، وجديد قديم، تماما كعروض الأزياء النسائية والرجالية، ومعارض السيارات وأجهزة الاتصال وأروقة الكتب الورقية والإلكترونية …।إلى أن يستقدم الآدميون من الكواكب البعيدة معادن أخرى غير المعادن، وماء غير الماء وهواء غير الهواء وترابا غير التراب ونساء غير النساء ورجالا غير الرجال وألوانا غير الألوان، وكلاما غير الكلام، وحروفا غير الحروف…

وفي هذا العقد الجديد من ألفيتنا الثالثة كم واحد منا غير هاتفه النقال وباقي الأجهزة الإلكترونية !. وحتى التلفزيون القديم الذي تربع على عرش غرف الجلوس والاستقبال ردحا من الزمن في بيوتنا قد استحال إلى برواز لوحة جدارية مشعة بالألوان النقية ثلاثية الأبعاد وبالأصوات المجسمة…। لكن فكرة التلفزيون كفكرة ووظيفة وطريقة للتواصل بقيت على حالها… إلى أن يخترع الأدميون عيونا غير العيون وآذانا غير الآذان وألسنة غير الألسنة। وإلى أن يحين ذلك الوقت سيبقى كل ما على أرضنا مما هو مصنوع أو مطبوع امتداد لذات الإنسان وكيانه المحدود بضائقة الزمان وذات اليد وبضيق المكان…

و من كان ينقش بالأمس البعيد حروفه بالإزميل على حجر، هو من كان ينقش حروفه بالأمس القريب على سجل أو دفتر، وهو من يرقن اليوم حروفه المنسدلة على مسطح زجاجي مشع لكن فقط بلمس مجسات إلكترونية استشعارية.

ومع أن الكتابة أثر باق وشهادة إثبات على كل الموضوعات التي ننتزعها من ذاتنا ومن غيرنا ومن عموم الحياة، فإن المحو فيها أكثر، وهذا ما يجعل الكتاب مختلفين عندما يطلب منهم أن يكتبوا في موضوع واحد؛ فالاختلاف يقع فقط في ما يثبته هذا ويمحوه الآخر، فيما يستحضره هذا ويغيب عن ذاك.

وفعل المحو والإثبات هو ديدن سائر الفنانين والمبدعين: فلوحة الرسام مثلا إنما هي بقية ألوان لم تستعمل، ومنحوتة النحات الحجرية هي بقية ما تساقط من قطعة الحجر بعمليات الحفر والنقر والصقل حتى تستوي على هيأة وجه أو شكل أو حركة.
ولذلك تجد الصائغ يفرش تحت مصوغاته عند القطع والخراطة والتلحيم منديلا أو لوحا زجاجيا نقيا حتى يجمع ما تساقط وما تناثر من جزيئات الذهب والفضة والماس ليعيدها إلى دورة إنتاج أخرى عندما تبرق أمامه فكرة جديدة، وفي هذه الأيام بدأت تعمل كثير من مصانع العالم وأوراشه على تدبير النفايات الطبيعية والصناعية…

ونحن أيضا عندما ندون أو نكتب قد يتساقط من حروفنا وكلماتنا قدر كبير لا يصل إلى القارئ بعمليات التنقيح والتحكيك والمراجعة। وأنا أجزم في نهاية هذا الإدراج بأن ما تساقط من حروفه أكثر مما بقي منها، حتى استوى على هذا النحو.

لا يهدأ بال الكاتب المفتون بسحر الكلام حتى يسكن كل حرف من حروفه إلى جاره، ويستقر في مكانه استقرار الجالس المستريح. وعندما ينهي موضوعاته ويرسلها على الشبكة أو ينشرها تصبح ورقة في شجرة المعرفة الإنسانية، فإما أن تثبت بقوة في أغصانها، وإما أن تسقطها الرياح.

الأربعاء، 3 مارس 2010

استراتيجيات الكتابة؛ الورقة الأولى.

الورقة الأولى: اختيار الموضوع، (خواطر بين يدي الموضوع)

سبق لنا أن قدمنا مفهوما عاما للكتابة في إدراج سابق.

أما اليوم فنريد أن نعرض لقضية اختيار موضوع الكتابة، من لحظة كونه جنينا في رحم الفكر أو الخيال إلى لحظة بلوغه الدرجة المقبولة من النضج والاكتمال، ولا نقول الكمال؛ لأن كل شيء مرتبط بعلم الإنسان وإدراكه وخياله فإنما هو نسبي، أي بالنسبة إلى شيء آخر قد ينقص عنه أو يزيد عليه قليلا أو كثيرا.

وفي البداية، لا بد أن نُسلم بأن كل ما يدرك بالحس أو العقل أو التجربة صالح لأن يكون موضوعا للكتابة، بغض النظر عن المحاذير والأسلاك الشائكة المحيطة بنا والخطوط الحمراء الموضوعة أمامنا والسقوف المتينة المرفوعة فوق رؤوسنا، لأن كل شيء موجود فإنما هو يوجد أصلا فينا أو حولنا أو يمر فينا عبر مجساتنا ووسائل إدراكنا المركبة فينا خلقة وجبلة، بغض النظر عن طبيعة الموجودات من حيث كونها حسية أو معنوية، حقيقية أو افتراضية، ومن حيث كونها صغيرة أو كبيرة جليلة أو حقيرة نافعة أو ضارة.

فكيف السبيل إلى التجاهل أو الإنكار أو المجادلة والاستكبار، وكل ما أدركناه بالحس أو الفكر أو الممارسة أو الخيال فقد حزناه وامتلكناه، ولكن بمقدار درجة وعينا الشخصي به، وفي حدود طاقة لغتنا التي ستبقى أداتنا الأولى في التفكير والتعبير رغم طوفان الصور الذي يغمرنا من كل جانب، ورغم سحر تقنيات الصورة وخدع الإخراج التي تجعلها أحيانا أجمل وأبدع من واقع الحياة ومن بيان اللغة؟.

ولو كانت قيمة موضوعات الكتابة تقاس بالحجم أو القوة أو الجدوى أو السرعة لكانت الكتابة عن الفيل مثلا أهم من الكتابة عن النملة، ولكانت الكتابة عن الخبز أجدى، ولكانت الكتابة عن العسل أحلى وأشفى، ولكانت الكتابة عن الحرية أوسع وعن السجن أضيق، ولكانت الكتابة عن الصاروخ أسرع وعن السلحفاة أبطأ، ولكانت الكتابة عن الشجاعة قوة وعن الجبن ضعفا، ولكانت الكتابة عن الوضوء طهارة وعن مبطلاته نجاسة…

إن مشكلة الكتابة حول موضوع ما لا تكمن في الموضوع نفسه كيفما كان أصله أو فصله، وإنما في اختيار الموضوع وفي الملابسات المحيطة به। وتلك الملابسات قد تكون خاصة بالكاتب وحده، وقد تكون عامة يشترك فيها مع كل الناس كما يشترك معهم في الحقوق والواجبات وفي أمهات المصالح والمشكلات، وفي الهواء الذي يتنفسونه وفي الماء الذي يشربونه.

ولو كان الكاتب يكتب عن نفسه ويقرأ لنفسه فقط لهان الأمر، ولما رفعت في وجهه المحاذير وصكوك الاتهام والغفران في كل عصر وفي كل مصر.

إن ما نفكر فيه قبل ارتكاب فعل الكتابة أو جرمها أو إثمها يبقى شأنا خاصا لا يملك أحد الحق في الاقتراب منه أو القدرة على مصادرته، لأنه في حكم العدم أو لنقل في وضعية استعداد للتشغيل (standby) فهو موجود ولكنه غير معلن. إنه موجود بالقوة وليس بالفعل. وربما لهذا السبب فإن معظم ما يفكر فيه الناس باستمرار يضيع في خضم انشغالات الحياة العادية بين أكل وشرب وصحو ونوم وجد وهزل وفراغ وعمل حتى يأتي كاتب ما فيضغط زر التشغيل ذاك، ويحول ما يفكر فيه الناس بحكم العادة إلى موضوع قد يحسبه الناس والمنتقدون والمؤيدون والمعترضون أنه خارج عن المألوف والعادة.

ولكن، قد يحدث أن يتحول مجرد البدء في التفكير إلى تهمة أو مساءلة عندما يكون إلى جانبك شخص آخر يرمقك بنظراته ويقرأ على ظاهر وجهك ما يعتمل في دواخلك وأغوارك। ففي لحظة الشرود قد تفاجأ بهذا السؤال: في أي شيء تفكر، هيا أجب؟ لقد فضحك بريق عينيك وتغيُر لون وجهك , وها قد بدأت أخيرا أولى حروف البوح ترتسم على شفتيك…

غير أن ما تثبته خطوط الكتابة أخيرا وبعد طلق فكري مؤرق ومخاض تحريري موجع عندما تطول بك ساعات الجلوس على مقعد غير مريح، سرعان ما يصبح معروفا بالاسم والصفة لدى أبعد الناس فضلا عن أقربهم، كأي مولود جديد يستحق هوية واسما يكتب في الكنانيش العائلية وفي السجلات والمحاضر الحكومية। غير أن هذا المولود قد يفرحك تارة وقد يغضبك تارة أخرى، وقد يكون سبب نعمة فتنتفع به أو نقمة فتشقى به، وقد يريحك طورا ويتعبك أطوارا॥إنه تعب الكتابة وسهدها لمن يقدرها حق قدرها، ويستقطر رحيق الروح من كلمات ليست كالكلمات…

وهناك فرق كبير بين أن تعيش لوحدك وبين أن تعيش مع الناس، وبين أن تأكل لوحدك وبين أن تأكل معهم من قدورهم وأطباقهم، فأنت في الوضع الأول مختار بينما أنت في الوضع الثاني مساير أو مجامل أو مجبر أو محتار…

فالأعراف والتقاليد والقوانين والأحكام الجاهزة سلفا هي التي تفرض علينا دوما أن نقول في موضوع ولا نقول في موضوع آخر، وأن نتكلم في وضع ونصمت في وضع آخر، وأن نعتبر بما يُعتبر عند الناس، وأن نقتنع بما يُقنعهم بحكم العرف والدين والقانون والعادة.

ولذلك من الطبيعي جدا أن يمر الكاتب قبل اختياره لموضوع ما باختبارات نفسية عسيرة وترشيحات وترجيحات، وقد يتقمص أدوار قراء مختلفين، وحتى دور الرقيب والجلاد، ويطرح أسئلة ويقترح أجوبة حول كل موضوع قيد الاختبار قبل الاختيار..

وربما تطلب الأمر تبييت الموضوع الواحد أو مجموعة مواضيع أياما عديدة حتى ينضج الواحد منها وتفوح روائحه، مما يدفعه إلى التخلص منه سريعا عبر فعل الكتابة، كما يتخلص الجسم من السوائل الزائدة وبقايا الطعام.

والكتابة أخيرا خلاصة كل الخلاصات وعصارة كل العصارات، فمن يقدر أن يقول عن العسل: إنه بُراز النحل أو قيئه॥!! ومن يقدر أن يقول عن الكتابة: إنها بُراز العقل أو قيئ المخ.. لاحظ معي كيف قادتني غواية الكتابة إلى هذه المقارنة الغريبة، وإلى هذا الأسلوب السخيف..!!

ويحس الكاتب بنشوة العائد من سفر طويل، وبراحة من تخلص من نفايات جسمه بعد طول انحباس، عندما يضع نقطة النهاية لموضوع اختاره أو جرب الكتابة فيه، فيخرج من عزلة الكتابة إلى مصافحة وجه الشمس ولقاء الناس.

والكاتب أول من يسعد بكتابته قبل أن يسعد بها غيره لأنه بالضرورة أول قارئ لما كتبت يداه، وأول منتقد لما تتصفحه عيناه. وهذا ما قد ينساه أو يتناساه الناس في العادة.
ولكنه لا يكتفي حتى يكرر فعل الكتابة أو جرمها أو إثمها مرات ومرات كمن تمكنت منه عادة الإدمان…

وحتى إذا ما قرر يوما أن يكتم صوته ويحبس مداد قلمه لحيرة أو نكد أو مرض أو وهن، فإن هاجس البوح يلح عليه في كل مرة، وتصبح الكتابة مع مرور الوقت أشبه ما تكون برياضة الصيد ولعبة المطاردة। فعليك في كل مرة أن ترمي شباك حروفك لتقتنص جديد الأفكار، وطريف الموضوعات…

وهناك ثلاثة أزمنة محيطة بكل موضوع :
زمن أول لاختيار العنوان المناسب؛ فالوقوع على العنوان هو العملة الصعبة لكل كتابة جيدة أو مثيرة، ويمكن صرفها حسب الحاجة وعلى فترات। وقد يتم العثور على العنوان بالصدفة الخارجية من خلال ملاحظة سلوك الناس وتتبع مجريات الأحداث القريبة أو البعيدة، أو بالإلهام الداخلي الذي يشحذ مع مرور الوقت بالخبرة والقراءة المستنيرة والتدريب على تمثل الرؤى والمواقف والحالات.

وتمكن العناوين الكاتب من الهجوم على موضوعاته بسرعة إذا كانت أدوات الكتابة لديه، فالعنوان هو البوصلة التي ترسم معالم الطريق أمام الكاتب وتجنبه التيه والضلال. وربما تطلب الأمر تعديل العنوان جزئيا أو كليا بعد الفراغ من كتابة موضوع ما حتى يكون أكثر دلالة وأكثر إثارة.

وزمن ثان للبسط والعرض، وحيث يمكن للكاتب أن يصول ويجول في مضمار الورق أو على شاشة الحاسوب حتى يستوفي عناصر موضوعه فقرة فقرة، وجزء جزء.

وزمن ثالث غير ثابت للمراجعة، فالعرض أو ل الأمر يكون غير مرتب وغير تام، ولكن المراجعة هي التي تصلح ما اعوج منه بوضع كل فقرة وكل جملة وكل كلمة في مكانها المناسب الذي يتطلبه السياق.

والكتابة مثل البناء لا بد لها من هياكل لغوية قوية تدعمها وتصمد بها في وجه المتغيرات، ولا بد لها من بعض الجماليات الفنية التي تجعلها ذات مزية تتجدد كلما أجلنا فيها الفكر أو جددنا فيها النظر. وللكتابة عن هذا الموضوع بقية.