السبت، 12 يوليو 2008

من وحي البريد المزعج


التراسل بين الناس قديم قدم الحواس الخمسة المركبة فيهم خِلقة وجبلة. فكل واحدة من تلك الحواس نظام كامل معقد لبث إشارة ما واستقبال أخرى.

وكما لكل حاسة القدرة على فرز الإشارة وتفكيكها وتحليل معطياتها فلها القدرة ذاتها على ترميزها وإخفائها بحيث لا يستطيع فك مجاهلها إلا من أُعطي مفاتح الفهم السرية الأولى لها...

ولم تكن اللغة الشعرية عبر كل العصور الماضية إلا اختزالا منظما لفوضى عوالم المسموعات والمرئيات والمشمومات والملموسات وكل أصناف المذاق الحلو والمر وما بينهما من وسائط لا تعد ولا تحصى.

وستظل هذه اللغة الشعرية على الدوام أهم مرفأ تفرغ فيه البشرية حصاد مدركات حواسها الإنسانية الأولى المتدفقة كجدول رقراق مهما بلغ شأنها من تقدم علمي وتطور آلي تقني...

ومعول الناس الأول عندما يكونون في القرب على حواسهم عندما ينصت بعضهم إلى بعض أو يهمس بعضهم إلى بعض أو يرنو بعضهم إلى بعض أو يتنسم بعضهم عطر بعض ... ولكنهم إذا ما تباعدوا وحل بينهم البين وأطبقت عليهم غيوم الصمت لم يجدوا عن أنظمة البريد والتراسل المستحدثة بديلا.

ومع أن للرسائل المكتوبة بخط اليد قيمة حسية وإنسانية أكبر لأنها تحمل أجزاء من أثر صاحبها: مداد قلمه، وشكل خطه بكل تعرجاته ومنحنياته، وبصمة يده، وربما شذى عطره، وربما بعض خصلات شعره المتساقط داخل المظروف، وطابع البريد لدولة المصدر، وغير ذلك مما يجمل الاحتفاظ به لتأكيد العهد وتوثيق الذكرى...

غير أن انتقال الناس في هذا العصر إلى نظام البريد الإلكتروني الآني يكاد يعصف بمخلفات أنظمة التراسل القديمة، وتكاد صلة الناس بالأقلام وبالطوابع والطرود والأختام البريدية تنقطع ...وتحولت كثير من مصالح البريد الحكومية التي كانت تسهر على تأمين وصول مراسلات المواطنين إلى وجهتها المعلومة إلى ما يشبه الدكاكين لبيع أجهزة الهاتف الثابت والنقال واستخلاص فواتير الاتصال...

ومع الأسف فإن ما يضير مستخدم البريد الإلكتروني رغم حسناته الكثيرة أن يجد نفسه مضطرا في كل يوم إلى كنس بريده وتنظيفه من الرسائل المزعجة التي تكون كثافتها في بعض الأحيان في حجم كثافة الصراصير المتكدسة عند نهاية البالوعات القذرة. فعدد الرسائل المزعجة يفوق في العادة الرسائل المرغوبة بمقدار ثلاثة أضعاف أو أكثر، وإذا تهاون أحدنا في تنظيف بريده لبضعة أيام معدودة فقط فسيجد أن رسائله المحفوظة قد التهمتها تلك الصراصير الإلكترونية وصارت في خبر كان....

لقد أصبح إرسال البريد المزعج تقليدا إلكترونيا لا يقوم به الأشخاص المحترفون لمهنة اللصوصية والتسول الإلكترونيين فقط، بل تقوم به كثير من الشركات الافتراضية الوهمية التي تدس ملايين الرسائل المزعجة معترضة بريد الناس لتستغفلهم وتبيعهم الوهم تارة باسم شركة القمار واليانصيب التي تعد صاحب البريد بالربح الوفير وكأنه الوحيد المعني بالاهتمام، وتارة باسم شركات مزورة لبيع الدواء ومواد التجميل وغير ذلك مما له صلة بعالم الرذيلة ومستلزماتها....

وإذا كان هذا هو حالنا اليوم مع البريد المزعج بعد مرور ثلاثين سنة على إرسال أول رسالة مزعجة غير مرغوبة في الثالث من شهر أيار/ مايو عام ثمانية وسبعين من القرن الماضي . فكيف سيكون واقع بريدنا الإلكتروني بعد مرور ثلاثة عقود أخرى من الآن؟...
________________

إدراجات ذات صلة:
قصص التراسل والمراسلة بين الأمس واليوم

ليست هناك تعليقات: