الجمعة، 27 يونيو 2008

الكظيمة أم الترموس


الكظيمة من الكلِمات العربية القديمة الفصيحة؛ ومن معانيها التي وردت في قواميس العرب: البئر إلى جانبها بئر، وبينهما مجرى في بطن الوادي. ومن معانيها : بطن الأرض أينما كانت، فهي كظيمة لأنها تحبس ما فيها .
وهذا رجل كظيم قد انطوى على غم أو حزن كبير، قال تعالى ( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) يوسف / 84. فالحزن على يوسف في الآية الكريمة مكظوم، ويعقوب عليه السلام كظيم لأنه احتوى حزنه الكبير في داخله.

أما الفعل( كظـَم ) فيفيد معنى الاجتراع والرد والحبس أيضا، قال تعالى: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) آل عمران /134. فقد فسر المفسرون معنى ( الكاظمين) بالحابسين الغيظ لا يجازون عليه، فكأنهم يجترعونه أو يردونه في جوفهم فعل الماشية التي تجترع العشب وترده إلى جوفها.

ومن الدلالات اللغوية الجديدة لكلمة (الكظيمة) التي لا تروج كثيرا في الاستعمال اليومي إطلاقها على آنية حفظ الحرارة المعروفة في لغة العامة ب (الترموس).

ولكن، لشهرة هذه الكلمة الأخيرة ( الترموس ) في أدبيات الأكل والشرب عندنا غاب عن أذهان معظم الناس أن تكون هناك كلمة عربية فصيحة أخرى غير هذه المنحوتة من اللغة الأجنبية يمكن أن تدل على هذا المُنتج الصناعي الذي يحفظ الحرارة للقهوة والشاي وغيرهما من السوائل لبعض الوقت. وحتى إذا عرفوها فكيف لهم أن يتقبلوا استعمالها بديلا عن كلمة (الترموس) المتداولة بكثرة في خطاب الإشهار التلفزي العربي.؟

وإذا تأملنا في الأبعاد العميقة لمدلولات كلمة ( الكظيمة) المشار إليها آنفا فإننا نستنتج أنها أغنى وأعمق في الدلالة بكثير من كلمة (الترموس) الجامدة.

وقد راقني مؤخرا أن أرى بعض المجلات الورقية المهتمة بشؤون المرأة والطبخ ولوازمه قد انتبهت إلى كلمة (الكظيمة) واستعملتها في الدلالة على آنية حفظ الحرارة لكن بنوع من الحذر والاستحياء، إذ لم تستعملها منفردة وإنما جنبا إلى جنب مع نظيرتها الأجنبية (الترموس) الشائعة لدينا في الاستعمال ومكتوبة بحروف لاتينية...

وقد يكفيك بعض الوقت الذي تمضيه داخل مصالح الإدارات العمومية المغربية لتختبر بنفسك كل ما يعتمل بداخلك الذي يشبه جوف الكظيمة أو (الترموس) الذي أحكم غلقه. أقصد اختبار حرارة الاستقبال بالمماطلة والانتظار، وبرودة التوديع بالتأجيل والتسويف .

كم حاجة قـُضيت في أوطاننا العربية بتركها إلى عامل الوقت الضائع من حساب تقدمنا وكرامتنا وعيشنا...
ولولا غلاف الكظيمة السميك الذي يتمتع به المواطن العربي في داخله خلقة واكتسابا لانفجرت آلاف الجسوم العربية المكلومة والمهمومة على الطرقات وعند مصالح وزاراتنا العمومية بسبب حرارة القهر وبرودة الاحتكار وصقيع البيروقراطية.. !!

الجمعة، 20 يونيو 2008

تراجيديا الإسمنت والإسفلت


لم تتميز حياة الإنسان المدنية التي أساسها مدَرٌ وآجرٌ وحجرٌ عن حياة الخيام التي أساسها شَعَرٌ وخيط ووبَرٌ إلا عندما اهتدى منذ وقت مبكر إلى رفع القواعد والجدران والأساسات بالجبس والإسمنت والإسفلت...

ولا زالت كثير من الأبنية القديمة الناتئة القائمة على سطح الأرض من أسوار وصروح ومدرجات وأهرامات صامدة حتى اليوم في وجه متغيرات الدهر وصروفه تحكي أجزاء مخبأة من تفاصيل دراما العيش البشري القديم في السلم والحرب، والسياسة والرياسة، والانتصار والهزيمة، والنعيم والشقاء، والتقوى والنفاق.

إن تراجيديا رفع الجدران والأسوار والأساسات تنبع في كل عصر من التجاذبات والتناقضات القائمة في نفس الإنسان بين الخوف والاطمئنان، والدفاع والهجوم، والهدم والبناء، والموت والخلود، والتدين والإلحاد...

والله وحده يعلم كم عدد المستضعفين الذين قضوا عند الجدران والأساسات أو تواروا خلفها أو اختلط لحمهم ودمهم بموادها، أو انسحقت عظامهم تحت ضغط حجارتها التي لا تشفق ولا تلين، منذ فجر التاريخ حتى اليوم وإلى أن يشاء الله..
وما وقائع نسف أبراج نيويورك الموثقة بالصوت والصورة عنا بغريبة أو بعيدة، ولها في كل يوم أشباه ونظائر صغيرة أو كبيرة بسبب النسف العشوائي العدواني الغاشم وبسبب الزلزال والطوفان وغضب الطبيعة، وحتى بسبب الغش في مواد البناء والخرسانة...

وليست الجدران في يومنا هذا فقط ما ترفعُ قواعدَها الأيادي العاملة أو مقاولات البناء العملاقة التي تسخر أقوى الآلات الرافعة والداعمة والخافضة والناطحة، فتصبح أمرا واقعا ماثلا على سطح الأرض ببريق واجهاتها الزجاجية ومتاجرها الزاهية المتلألئة، وبشموخها الذي يحجب في الأعالي ضوء الشمس بالنهار وهالة القمر بالليل، وإنما أيضا تلك الجدران الوهمية الماثلة في عقول صنف من سكان هذا العالم ووجدانهم لعزل سكان الشمال عن الجنوب ومعسكر الأغنياء المتخمين بالنعيم ووفرة الغذاء عن معسكر الفقراء المطحونين بالجوع والخصاصة...

إنها ترسانة القوانين المحجفة التي يسطرها ويدبجها في كل يوم جديد دهاقنة الرياسة والسياسة وما يدور في فلكهم من أباطرة الاقتصاد والتجارة والمال والمتنفذين والمتزلفين باسم الشرعية الدولية أو بالأحرى باسم شريعة الغاب الدولية التي لا مكانة ولا قيمة فيها للضعفاء والمتخلفين والمهزومين. وتلك القوانين أعتى وأقوى من كل أسلحة الدمار الشامل المخزونة المخبوءة لديها، وهي كفيلة لوحدها لتقوم أيضا مقام كل الجدران العاتية العالية بينهم وبين فقراء وأوباش هذا العالم، ولتقطع الطريق على كل من سولت له نفسه أن ينافس أو حتى أن يحتج أو يتظلم......

ما أشبه سوق السياسة في عالمنا المعولم هذا بأسواق النخاسة القديمة حيث كان يباع العرض والجسد والمتاع، غير أن هذه كانت بالتقسيط وتلك صارت بالجملة.!!
ألم يبع العراق الشقيق بكل شعبه وتاريخه ومجده في سوق النخاسة السياسية الدولية، وتلطخت أيدي المتورطين في هذه الصفقة التاريخية الحديثة المشبوهة بأوضار المصالح والأطماع والفساد، وحتى بدماء الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ...؟؟

وفي الوقت الذي يتضاءل فيه حجم الطبيعة الخضراء بسبب اكتساح الاسمنت والإسفلت عموديا وأفقيا وطولا وعرضا، وفي الوقت الذي تمتد فيه ذروع ومجسات أخطبوط العولمة المادية لتلتف على فقراء ومستضعفي هذا العالم وتمسك بخناقهم، وليجتمع عليهم ضيق النفـْس وضيق النفـَـس وضيق ذات اليد... وهلم ضيقا وضغطا وانسحاقا...

ولو لم يكن للإنسان بقية متمنعة من عوالمه الداخلية الخاصة التي أساسها حد أدنى من حلم وخيال لكان شقاؤه مضاعفا كلما ارتطم مرمى نظره في الخارج بحائط أو سياج.

ترى ماذا سيحل بإسان اليوم أو الغد عندما تصبح أجهزة الرقابة والرصد المتطورة لدى حكوماتنا التي أصبحت أشبه ما تكون بالمقاولات السياسية القابضة بيد من حديد، قادرة على اختراق مملكة خيالاتنا الخاصة ليحاسبنا الجلادون ليس فقط على ما نخطه أو نرسمه أو نصوره بالعدسات الإلكترونية، بل حتى على ما يرتسم داخل جدران جماجمنا الصغيرة من وصور وأوهام وخواطر وأحلام....؟ !.

الاثنين، 9 يونيو 2008

قراءة في التدوين العربي المُـنتسب


غابة التدوين العربي.

كثرت المواقع العربية التي تقدم خدمات التدوين المجاني، وكثرت مدونات المنتسبين إليها من العرب وغير العرب الناطقين بلغة الضاد كثرة هائلة جعلت واقع التدوين العربي الراهن يعرف حالة غريبة من التضخم والحشو والامتلاء العشوائي، فصار أشبه ما يكون بالغابة البرية: فيها من الشجر المزهر والمثمر بمقدار ما فيها من السدر والشوك والحنظل، وفيها من التغريد والتطريب بمقدار ما فيها من الزئير والفحيح والصياح، وفيها من الأنس والسكينة بمقدار ما فيها من الوحشة والرهبة.....

ومعلوم أن إتاحة خدمة التدوين المجاني في بعض المواقع العربية السباقة، وإن جاءت متأخرة عن الركب الدولي، كعادتنا في كل شيء، فقد كانت شبه ضرورة حتمية بعد استشراء واستفحال حمى التدوين العالمية.

كما أن خدمة التدوين المجاني المتاحة في بعض المواقع العربية لم تكن كرما حاتميا منها لصالح شريحة كبيرة من المواطنين المغلوبين على أمرهم الراغبين في الكتابة والتعبير عن أنفسهم وانشغالاتهم ممن لا قبل لهم بإنشاء مدونة أو موقع على نطاق خاص مدفوع الأجر، بقدر ما كان ذلك اقتداء واضحا بكبريات المواقع العالمية المشهورة الرائدة في مجال تطوير وتحسين خدمات التدوين المجاني، وبواجهات لغوية متعددة ومنها اللغة العربية أيضا، كما أوضحنا ذلك في إدراج سابق.

هذا فضلا عما يضيفه التحاق عدد هائل من المدونين المنتسبين إلى تلك المواقع العربية من سيولة كبيرة في حركة الزوار والمعلقين؛ فكثيرا ما تكون الغاية الأولى لمعظم تلك المواقع عند إضافة خدمة جديدة هو جلب أكبر عدد ممكن من الزوار، ولو أدى بها الأمر أحيانا إلى تغليب جوانب البهرج الزائف والإثارة الحمقاء والتشهير الهدام على جوانب المضمون الخصب والمحتوى البناء. فليس هناك ما يحبط المشرفين على إدارة المواقع العربية أكثر من نزول مؤشر الزوار إلى الحضيض. ولذلك ينبغي ألا نستغرب عندما نجد خدمة التدوين جنبا إلى جنب مع خدمات الدردشة والتشات وركن الزواج والتعارف وألبوم الأغاني والصور الثابتة والمتحركة وغير ذلك من الشكليات التي تنجذب إليها معظم الكائنات الافتراضية العربية، بسبب وعورة مسلك التعبير بالكلام العربي الفصيح في هذه الأيام.

وهذا من شأنه أن يرسخ في الأذهان صورة مشوشة ومشوهة عن التدوين العربي فتجعله أبعد ما يكون عن عمل الراشدين الواعين المكتوين بجمر الواقع العربي ولظاه، وأقرب ما يكون إلى سلوك المراهقين العابثين الغافلين عن ذواتهم ومحيطهم، وخاصة بعدما تحولت كثير من المدونات العربية إلى نسخ طبق الأصل لواقع المنتديات وغرف الدردشة الحمراء والصفراء من حيث طريقة كتابة الإدراجات ووضع التعليقات...

ومما لاشك فيه أيضا أن كثيرا من المواقع العالمية التي اعتمدت اللغة العربية كواجهة إضافية لمنصة التدوين لديها قد سحبت البساط من تحت أقدام كثير من المواقع العربية التي تقدم خدمة التدوين المجاني أيضا، وإن في الحدود الدنيا لشروط الجودة التقنية التي لا ترقى إلى طموح المدونين العرب ولا تلبي كل رغباتهم، فضلا عن هامش الحرية والمناورة المتاحين للكائنات العربية الافتراضية بشكل محدود، كما في واقع الكتابة الورقية سواء بسواء.

وقد يجري على هذه المواقع الافتراضية ما يجري على بعض شركاتنا التجارية والصناعية والخدماتية التي تعرضت لغزو العولمة والمنافسة الشرسة المحتكمة إلى رأس المال والخبرة التقنية والشفافية العالية، فحكمت عليها وكثير من مؤسساتنا الوطنية العربية العمومية بالإفلاس.

ترى هل الأوان لبعض المواقع العربية التي تقدم خدمة التدوين العربي لتعلن عن إفلاسها الافتراضي أيضا كما يحدث في كل يوم بالنسبة لكثير من شركاتنا العربية التجارية والصناعية والمالية والخدماتية على أرض واقعنا العربي المتهرئ؟ أو لتلغي هذه الخدمة من بوابتها إلى الأبد بعد هذا الرحيل الجماعي الذي يعرفه المدونون العرب إلى عوالم البلوغر وورد بريس مثلا؟...

وليعلم أصحاب هذه المواقع العربية أنهم مسئولون أدبيا وأخلاقيا عن هجرة الطيور المغردة إلى الضفة الأخرى حيث الصفاء والسكينة، بعدما أهملوا حديقة التدوين العربي، وتركوها غفلا لتنمو عشوائيا من غير تهذيب وتنقية وتشذيب...