الجمعة، 20 يونيو 2008

تراجيديا الإسمنت والإسفلت


لم تتميز حياة الإنسان المدنية التي أساسها مدَرٌ وآجرٌ وحجرٌ عن حياة الخيام التي أساسها شَعَرٌ وخيط ووبَرٌ إلا عندما اهتدى منذ وقت مبكر إلى رفع القواعد والجدران والأساسات بالجبس والإسمنت والإسفلت...

ولا زالت كثير من الأبنية القديمة الناتئة القائمة على سطح الأرض من أسوار وصروح ومدرجات وأهرامات صامدة حتى اليوم في وجه متغيرات الدهر وصروفه تحكي أجزاء مخبأة من تفاصيل دراما العيش البشري القديم في السلم والحرب، والسياسة والرياسة، والانتصار والهزيمة، والنعيم والشقاء، والتقوى والنفاق.

إن تراجيديا رفع الجدران والأسوار والأساسات تنبع في كل عصر من التجاذبات والتناقضات القائمة في نفس الإنسان بين الخوف والاطمئنان، والدفاع والهجوم، والهدم والبناء، والموت والخلود، والتدين والإلحاد...

والله وحده يعلم كم عدد المستضعفين الذين قضوا عند الجدران والأساسات أو تواروا خلفها أو اختلط لحمهم ودمهم بموادها، أو انسحقت عظامهم تحت ضغط حجارتها التي لا تشفق ولا تلين، منذ فجر التاريخ حتى اليوم وإلى أن يشاء الله..
وما وقائع نسف أبراج نيويورك الموثقة بالصوت والصورة عنا بغريبة أو بعيدة، ولها في كل يوم أشباه ونظائر صغيرة أو كبيرة بسبب النسف العشوائي العدواني الغاشم وبسبب الزلزال والطوفان وغضب الطبيعة، وحتى بسبب الغش في مواد البناء والخرسانة...

وليست الجدران في يومنا هذا فقط ما ترفعُ قواعدَها الأيادي العاملة أو مقاولات البناء العملاقة التي تسخر أقوى الآلات الرافعة والداعمة والخافضة والناطحة، فتصبح أمرا واقعا ماثلا على سطح الأرض ببريق واجهاتها الزجاجية ومتاجرها الزاهية المتلألئة، وبشموخها الذي يحجب في الأعالي ضوء الشمس بالنهار وهالة القمر بالليل، وإنما أيضا تلك الجدران الوهمية الماثلة في عقول صنف من سكان هذا العالم ووجدانهم لعزل سكان الشمال عن الجنوب ومعسكر الأغنياء المتخمين بالنعيم ووفرة الغذاء عن معسكر الفقراء المطحونين بالجوع والخصاصة...

إنها ترسانة القوانين المحجفة التي يسطرها ويدبجها في كل يوم جديد دهاقنة الرياسة والسياسة وما يدور في فلكهم من أباطرة الاقتصاد والتجارة والمال والمتنفذين والمتزلفين باسم الشرعية الدولية أو بالأحرى باسم شريعة الغاب الدولية التي لا مكانة ولا قيمة فيها للضعفاء والمتخلفين والمهزومين. وتلك القوانين أعتى وأقوى من كل أسلحة الدمار الشامل المخزونة المخبوءة لديها، وهي كفيلة لوحدها لتقوم أيضا مقام كل الجدران العاتية العالية بينهم وبين فقراء وأوباش هذا العالم، ولتقطع الطريق على كل من سولت له نفسه أن ينافس أو حتى أن يحتج أو يتظلم......

ما أشبه سوق السياسة في عالمنا المعولم هذا بأسواق النخاسة القديمة حيث كان يباع العرض والجسد والمتاع، غير أن هذه كانت بالتقسيط وتلك صارت بالجملة.!!
ألم يبع العراق الشقيق بكل شعبه وتاريخه ومجده في سوق النخاسة السياسية الدولية، وتلطخت أيدي المتورطين في هذه الصفقة التاريخية الحديثة المشبوهة بأوضار المصالح والأطماع والفساد، وحتى بدماء الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ...؟؟

وفي الوقت الذي يتضاءل فيه حجم الطبيعة الخضراء بسبب اكتساح الاسمنت والإسفلت عموديا وأفقيا وطولا وعرضا، وفي الوقت الذي تمتد فيه ذروع ومجسات أخطبوط العولمة المادية لتلتف على فقراء ومستضعفي هذا العالم وتمسك بخناقهم، وليجتمع عليهم ضيق النفـْس وضيق النفـَـس وضيق ذات اليد... وهلم ضيقا وضغطا وانسحاقا...

ولو لم يكن للإنسان بقية متمنعة من عوالمه الداخلية الخاصة التي أساسها حد أدنى من حلم وخيال لكان شقاؤه مضاعفا كلما ارتطم مرمى نظره في الخارج بحائط أو سياج.

ترى ماذا سيحل بإسان اليوم أو الغد عندما تصبح أجهزة الرقابة والرصد المتطورة لدى حكوماتنا التي أصبحت أشبه ما تكون بالمقاولات السياسية القابضة بيد من حديد، قادرة على اختراق مملكة خيالاتنا الخاصة ليحاسبنا الجلادون ليس فقط على ما نخطه أو نرسمه أو نصوره بالعدسات الإلكترونية، بل حتى على ما يرتسم داخل جدران جماجمنا الصغيرة من وصور وأوهام وخواطر وأحلام....؟ !.

ليست هناك تعليقات: