الثلاثاء، 29 أبريل 2008

لغز العدادات الافتراضية

منذ أن وعى الإنسان علم الحساب وهو يصنع لكل حركة من حركات جسمه في الوجود مقياسا شاهدا على المسافات التي قطعها برجليه والأشياء التي حازها بيديه والآفاق التي أدركها بثاقب عقله ونفاذ بصيرته.

وقد كانت أعضاؤه المركبة فيه خِلقة وسائله الأولى للعد والقياس؛ فجرب استعمال المسافات الفاصلة بين أصابعه ويديه وقدميه كوحدة قياس حسية للمسافات والمساحات والكتل والأحجام؛ فجعل منها الشبر والذراع والخطوة ثم الفرسخ والأوقية والصاع والدونم والفدان …، كما جرب استخدام أنامله في العد من الواحد إلى العشرة وما فوق ذلك ليعرف كم له أو عليه، وما أخذه وما أُخذ منه كما جاء في الذكر الحكيم ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) سورة ص، آية/ 23.

ثم كان من لوازم تطور هذا الكائن المدعو بالإنسان ما كان حتى اخترع لكل حركة من حركاته الطبيعية أو الاصطناعية في الزمان والمكان، بل ولكل نسمة هوائية، ولكل شهيق أو زفير أو نبضة قلب أو تدفق شريان أو عمل ذرة أو خلية وحدة قياس آلية أو رقمية شديدة التعقيد فائقة الدقة.

ويستحيل أن يخرج أي نشاط إنساني أو آلي في أيامنا هذه عن رقابة العدادات ولغاتها الجامدة على الحق كالميزان المستقيم؛ فكل الأشياء صارت في عالمنا المعولم والمعلب والمقولب مختزلة في الأرقام، محسوبة لنا أو علينا، مخصومة من حسابنا أو مضافة إلى رصيدنا سواء كنا أفرادا أو جماعات. وويل لمن فرط ولم يحسن التدبير والتدبر في لغة العدادت اللوغرتمية التي قد تعرف كل شاردة وواردة تخصان علم الإحصاء والحوسبة ولكنها قد لا تحسن أن تميز زيدا من عمرو، ولا تملك أن تصرح بمن اختلس أو زور ليُـرِبـح ذاته ويـُرضي نفسه ويُخسِـر الآخرين ويُحبـط غيره.

وعندما انتقل الإنسان بتطوره التقني إلى مستوى الحياة الافتراضية التفاعلية في السنين القلية الماضية فقد جعل لتلك الحياة التي ما هي إلا نسخة ثانية من حياته الواقعية عدادات أخرى لكنها من طينة الحياة الافتراضية نفسها؛ فكل ما في العوالم الافتراضية مرصود محسوب أيضا وذلك بعدد الأشخاص الافتراضيين أنفسهم وبعدد ما يستعملونه في بيئتهم الافتراضية من أجهزة وبرامج ووسائل ربط واتصال.

غير أن العدادات الافتراضية نوعان: ظاهر وخفي. وأصحاب المواقع والمنتديات والمدونات يملكون اليوم خيارات برمجية متعددة لاستخدام أحد النوعين من العدادات؛

فالذين يختارون العدادات الظاهرة تحدوهم الرغبة الذاتية الصادقة لكشف المعطيات التي يعتقدون أنها حقيقية وذات نسبة عالية من الصحة عن حركة زوارهم أمام الملأ الافتراضي بكل وضوح وشفافية إن لم يعبثوا بإعداداتها بالغش والتزوير لأغراض في نفس يعقوب؛ ومنها: إعطاء انطباع مزيف برواج مدوناتهم ومواقعهم، أما الذين يختارون العدادات الخفية فإنهم لا يفضلون الكشف عن معطياتها إلا لأنفسهم فقط، وفي سرية تامة عن الملأ الافتراضي وذلك عبر استخدام مفاتيح الولوج المشفرة الخاصة بهم لأغراض في نفس يعقوب أيضا، ونادرا ما يفصحون عنها. وربما يكون ذلك راجعا إلى استخفافهم بأمر الزوار الافتراضيين الذين لا يزيدون في نظر بعضهم عن كونهم مجرد خيالات وأشباح أو مجرد أرقام جوفاء خالية من كل معنى أو دلالة حقيقية.

ومع أن كثيرا من المواقع التي تقدم خدمة التدوين المجاني تتوفر على عدادات افتراضية للزوار غير أن الولوج إلى إعداداتها يبقى أمرا مستحيلا الشيء الذي يدفع بعض المدونين المنتسبين إليها إلى تثبيت عدادات مخصصة مجانية أو مدفوعة الأجر على الواجهة الأولى لمدوناتهم للتعرف بشكل أدق على حركة زوارهم في جميع نواحيها التفصيلية: من حيث مصدر الزوار من كافة القارات والبلدان والمدن وحتى الأحياء إن أمكن، ومن حيث الروابط التي استخدموها للوصول إليها في أوقات معلومة، ومن حيث الصفحات الأكثر قراءة، ومن حيث العناوين الأكثر طلبا لدى محركات البحث العملاقة ككوكل أو ياهو وغيرهما. هذا بالإضافة إلى نوع البرامج والمتصفحات والشاشات التي يستخدمها الزوار لدى عبورهم، والوقت الذي أمضوه في قراءة هذا الإدراج أو ذاك وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة المضبوطة باليوم والساعة والدقيقة والثانية وبالجداول التوضيحية العمودية والأفقية ومؤشرات الصعود والنزول الحمراء والخضراء التي تلخص حركة الزوار على مدار الوقت تماما كما في عدادات البورصة وسوق الأسهم المالية والتجارية.

ولكن، ورغم طفرة العدادات الافتراضية في هذه الأيام من كل لون وصنف يحق لنا أن نتساءل: ماذا يعني مقياس الارتفاع والهبوط في سوق التداول الافتراضي بالنسبة لصاحب موقع أو مدونة؟، وعن أي نوع من الزوار والقراء الافتراضيين يمكن أن نعتمد أو نتكل في تطوير أداء الكتاب والمدونين الافتراضيين، إذا ما علمنا أن أغلب الزوار لا يبحثون في عالم الإنترنت عن مواد القراءة الثقافية الرصينة، وإنما جل همهم البحث عن صورة مثيرة أو تحميل مقاطع فيديو أو نغمات موسيقية.

ولذلك قد لا يبدو غريبا أن تكون أكثر المواقع والمدونات زيارة في واقعنا العربي الافتراضي تلك التي تعج بالصور الثابتة والمتحركة وبملفات التحميل وبرامج الدردشة. فهذه المواد هي الأكثر إثارة لحاسة الاستشعار لدى عدادات الزوار فتجعل أرقامها تتقلب بسرعة يصعب ملاحقتها بالعيان أحيانا لكثرة الزوار المتهافتين على هذه المواد المعروضة وسط عدد هائل من الفلاشات المضيئة والزخارف والصور الملونة التي ينجذب إلى سحرها الزوار زرافات ووحدانا كما ينجذب الفراش إلى وهج الضوء والنار.

ثم ماذا يعني لنا موقع ما من هذا النوع عندما يحصد ما معدله عشرة آلاف زيارة في اليوم الواحد مثلا ؟؟ معناه أن عداد الزوار لا يثبت أو يتوقف طرفة عين، وكل هذا ليس بسبب غنى محتواه الفكري أو الأدبي أو الفني الراقي وإنما فقط بسبب مجموعة قليلة من الصور المثيرة أو مقاطع فيديو أو برمجيات أو أفلام أو روابط مختلفة للتحميل معظمها تم السطو عليه بالقص واللصق لدى المبتدئين أوبوسائل القرصنة لدى المحترفين؟؟ ثم ألا يغري هذا بالآخرين من أصحاب المدونات والمواقع الذين لا يتحرك مؤشر الزوار لديهم إلا في أوقات متباعدة جدا إلى التفكير مليا في أمر شح الزوار عند البعض إلى درجة العدم أحيانا وفيض الزوار عند البعض الآخر إلى درجة الطفح أحيانا أخرى؟.

فمن يعول على بنات أفكاره الأصيلة في واقعنا الافتراضي العربي لجلب الخطاب والزوار، دون مراوغة أو إشهار أو تملق واستجداء أواعتراض بريد الآخرين وإرسال بطائق الدعوة للزيارة إلى كل من هب ودب مرفقة بمختصر الإدراجات وعناوين الموضوعات المثيرة، فما عليه سوى الانتظار الطويل ليفوز بحظ ضئيل من الزيارات اليومية لا يتجاوز عند العد أصابع اليد الواحدة، إن لم تتعرض بنات أفكاره مع مرور الوقت للكساد والبوار عند انعدام الخطاب والزواربشكل تام؛ وحينها يصبح أمام ثلاثة خيارات؛ إما أن يلجأ إلى إجراء عمليات تجميلية على بنات أفكاره بإضافة حزمة قوية من الصور والأخبار والمواضيع ذات الحساسية الشديدة جنسيا ودينيا وأخلاقيا وركوب موجة الضحالة والتسطيح نزولا عند رغبة الجمهور الافتراضي الذي يلهث وراء كل مظاهر الإثارة والشغب والتجسس والفضول، وإما أن يلوذ بالصمت المطبق عن الكلام المباح إشفاقا على نفسه من الغبن والحسرة، وإما أن يعمل على إغلاق موقعه أو مدونته بقرار نهائي لا رجعة فيه وينسحب من عالم افتراضي لم يستجب لمطامحه أو لم يستطع أن يثبت فيه مواطء قدمه.

وربما ولهذا السبب قد يحلو للبعض أن يشبه عالمنا الافتراضي العربي بنبتة (الخرشوف) التي يرمى بثلثها، ولا يستعمل منها إلا الثلث الباقي الناجي الذي يصلح أن يُستهلك ويستسيغه بلعوم الإنسان العاقل الذي يستطيع أن يميز بين العسلوج والشوك.

الخميس، 24 أبريل 2008

تسونامي الغلاء والجوع

يبدو أن المثل الشعبي الذي تداوله المغاربة في أمثالهم الدارجة ردحا طويلا من الزمن: " حتى واحد ما كيموت بالجوع " قد تجاوز مدة صلاحيته بعد أن فقد شرطين أساسين من شروط صحة التداول والاستعمال: الشرط الأول فائض الغذاء، والشرط الثاني فائض المال.

صحيح أن نظام التوازن بين الجيب والقفة قد اختل كثيرا في هذه الأيام العالمية المعولمة المنذرة بارتفاع موجتي الغلاء والجوع ليزيد امتدادهما طولا وعرضا حتى يعما جميع الكرة الأرضية وليستوي ظهرها ببطنها وعاليها بمنخفضها.

فلا صوت الآن يعلو على هدير الجوع وصفير نذر الغلاء في كل وسائل الإعلام الدولية. الجميع حذرون والجميع مترقبون ومستنفرون.

ترى ماذا أعدت حكومات العالم النافع والمنتفع بعملائها وشركاتها المخصخصة والمخوصصة لثورة الجياع غير الوعود المعسولة برفع الأجور حفاظا على القدرة الشرائية التي وصلت إلى الحضيض.

وماذا سيكون موقفها إذا نفد صبر الجياع وتحركت عصافير بطونهم ولم تجد ما تقتات به من لقط وفتات لتهجم هجوم طير الأبابيل وترجم في طريق ثورتها كل مكان بالحجارة الملتهبة غضبا ونارا، ولتأتي على كل أخضر ويابس.

وقديما قيل:" الجوع أمهر الطباخين" أما اليوم وفي ظل شح الطبيعة واختلال توازنها من جهة انتظام التساقطات المطرية وتقتير الأغنياء وغباء الحكومات الدولية من جهة انشغالها وقتا طويلا ضائعا بحرب الطواحين الإرهابية الدولية بدل توفير الطحين لكل فم فيمكن أن نقول: إن الإحساس بالجوع صار أهم من كل النظريات الثورية البائدة لكسر الطوق وشق عصا طاعة الحكومات وخلق بواعث الانتفاضة. فلا خطبة سياسية اليوم أبلغ وأصدق من صياح الجوعى ووقوفهم في الطوابور الطويل أمام الأفران والمخابز الشعبية في انتظار رغيف أسود من الدرجة الثالثة قد يأتي وقد لا يأتي .

وفي بلاد المغرب غير المُنتفع يعرف المواطن المغلوب على أمره من مشيته الحائرة في الطرقات ومن تجاعيد جبينه التي تحكي تفاصيل حياته الشقية، ومن نوع الخبز الذي يقتات عليه أيضا.

وقد صار هذا المواطن أشد حرصا من أي وقت مضى على رتق ثقوب جيبه وسد ذرائع الإنفاق بالأعذار الملفقة فتراه أكثر إمساكا لكفه المرتعشة القابضة على راتب هزيل في حجم طائر" المقنين" الذي لا يسمن ولا يغني من جوع خوفا من أن يطير ذلك الراتب بجناحيه الخفيفتين قبل الأوان ليكمل بقية الشهر بالسلف والديون التي يتراكم جديدها على قديمها فيما يشبه المتاهة الحلزونية.

ولحسن الحظ فإن للمغاربة "المزلوطين" مقاومة فطرية عجيبة لجاذبية الإغراء ووصلات الإشهار التلفزيونية المغرية باحتساء كؤوس الشاي التي تنزل على معدتهم الخشنة بأكل العدس وأطباق الفول وبضع حبات الزيتون بردا وسلاما، وتعوضهم فراغ موائدهم من المقبلات والعصائر والفواكه الطازجة.

الثلاثاء، 22 أبريل 2008

وعي اللغة ووعي الذات

إن الوعي بأهمية ذاتنا الفردية والجماعية هو الوعي القوي المتأصل بأهمية اللغة التي يتشكل وجودنا بها ومن خلالها.

ويقع الوعي بأهمية اللغة كوعاء شفاف أو لباس حميمي لكل ذواتنا العربية عند المسافة الممتدة في كياننا بين لساننا ووجداننا. فإما أن نكون كما نحن بخصوصياتنا اللغوية المتناسبة مع ملامحنا الجسدية التي تشكلت على مدى آلاف السنين بعوامل المناخ الإقليمي والمحلي، وإما أن لا نكون عندما نقبل أن نكون كما يراد لنا غيرنا أن نكون، حتى لو اقتـُلعنا من أصولنا وجذورنا.
وهذا ما وعاه وعبر عنه الشاعر زهير بن أبي سلمى في الزمن العربي الأول عندما قال:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والـــدم

ولم يقصد زهير في شعره باللسان غير اللسان العربي عندما كانت العرب تتشرب لغتها العربية بكامل كيانها وإحساسها كما تتشرب الماء حتى الارتواء التام عند المناهل العذبة الصافية.

ترى بأي لسان يُـراد لنا اليوم أن نتكلم وأن نتنفس وأن نرتوي وأن نحيى وأن نتخيل وأن نحلم بعدما تلوثت مناهل اللغة لدينا بالكدر والطين بعد أن وطئتها أقدام الغزاة الأباعد ومن حذا حذوهم من الأهل والأقارب ممن يملكون في دواخلهم دعوات مرضية انفصالية أو استئصالية؟

كما أن ما يشاع اليوم من تشكيك في جدوى استعمال اللغة العربية الفصحى بين أوساط الشباب يكاد يفقدها كل قيمة حيوية وكأنما صارت في نظرهم عجوزا شمطاء تقادم عليها العهد وحفر الدهر على جبينها التجاعيد العميقة وأصاب عظامها بالوهن الشديد فلم تعد تطيق أدنى حركة، وقد آن لها الأوان لتمضي بقية أيامها في عزلة تامة انتظارا للأجل المحتوم حتى تنقرض أو يحدث الله في شأنها أمرا.

إننا هنا أمام حالة عقوق لغوي أصبح يستشري في أوساط ناشئتنا وبني جلدتنا كالمرض الخبيث. وهذا العقوق اللغوي أكثر خطرا وأشد فتكا بالنفس والوجدان من عقوق الأبوين لأن ضرره أعم وأشمل وأكثر تغلغلا وامتدادا في الزمن.

كما أصبح جسد اللغة العربية كجسد الفئران الصغيرة المغلوبة على أمرها داخل مختبر تحليلات وتجارب. فهي تتعرض على مدار الوقت لعمليات متواصلة من أنواع التلقيح والتهجين اللغوي الأنبوبي الذي ينتج في كل يوم مزيدا من التشوهات والأورام اللغوية التي تفقد لغتنا ما احتفظت به على مدى القرون الماضية من حسن وبهاء.

وقد يكفي أن تجلس بعض الوقت أمام قنواتنا العربية الفضائية الترفيهية من المحيط إلى الخليج، أو تستمع إلى أصوات المذيعين والمذيعات في الإذاعات الجهوية والرسمية لتتأكد من عمليات النحت والتعرية التي يتعرض لها جسد اللغة العربية التي لا تفقدها فقط ذلك الحسن والبهاء وإنما لتصيبها فوق ذلك بعمى الألوان. أما ما يعج به مجتمع القراءة الورقية والافتراضية في وطننا العربي فتلك طامة كبرى. وقد يتطلب أمر إصلاح هذا الوضع عددا هائلا من المراجعيين والمصححين اللغويين..

ونحن هنا لسنا بصدد الإشفاق على واقع اللغة العربية، لأن هذه اللغة كما كانت فستبقى كما هي في أسلوب القرآن الكريم وفي كل الأساليب العربية الشعرية والنثرية المعتبرة المودعة في بطون الكتب، وهي تحتاج فقط إلى من يرشد إليها ويقوم بقراءتها قراءة موجهة من لدن أهل الغيرة والمعرفة والاختصاص.
وإنما نحن هنا نشفق على أنفسنا وعلى الحالة العربية كلها التي عرفت تراجعا خطيرا في الاقتصاد والتنمية بل حتى وفي توفير أدنى شروط العيش الكريم لعموم المواطنين المغلوبين على أمرهم فما بالنا بما فوق ذلك كله ..

إن لهاثنا المرضي وراء لغات الغرب الأوربية التي آثرناها على اللغة العربية في تسيير دواليب الحياة العربية الحيوية والأساسية ردحا طويلا من الزمن منذ قدوم المستعمر الأوربي بقضه وقضيضه إلى أرضنا العربية ولد انطباعا سائدا لدى نخبنا الثقافية والسياسية الحاكمة صاحبة المال والنفوذ والقرار أنه لا يمكن أن تسير دواليب الحياة العربية إلا بلغتين لا ثالث لهما وهما: الانجليزية أوالفرنسية. وكل هذا من أجل الحفاظ على مصالحها الشخصية وتلميع صورتها في نظر الدول الغربية التي تتملق رضاها بأنواع شتى من مظاهر التزلف والخنوع والتنازلات؛ ومن أخطرها تعطيل استخدام اللغة العربية في دواليب التدبير والتسيير العام.

إن القوة اللغوية جزء لا يتجزأ من القوة الحضارية والتنموية الشاملة في جميع الدول العالمية التي تحترم شعور مواطنيها اللغوي ولا تتهاون في شأنه مقدار ذرة؛ لأن التنازل في القليل يغري بالتنازل في الكثير لمن لا شأن ولا شخصية له.

وإنه لمن الجبن أن نعلق أسباب ضعفنا وتخلفنا عن الركب الحضاري الدولي السريع على مشجب لغتنا العربية التي ربما قد تكون آخر حبال نجاتنا من الفراغ والضياع والتشتت والفرقة إذا أحسنا الاستمساك بها.
وقد يكفي أن نعلن حالة عصيان جماهيرية عربية شاملة ضد كل أشكال الهيمنة والتبعية اللغوية الأجنبية.

الأربعاء، 16 أبريل 2008

البياض الافتراضي

ليس المقصود بالبياض الافتراضي ذلك الفراغ أو الخواء الذي يشبه العدم، لأن جزء كبيرا من مصالح الناس في عالمنا الأرضي صار متوقفا على أجهزة الكمبيوتر وعلى أنظمة الاتصال والمعلومات المتبادلة بين الناس عبر بوابات السماوات الافتراضية المفتوحة على مدار الوقت، وإنما المقصود من البياض الافتراضي ذلك الوقت الميت الذي ينفلت منا ويضيع كالهباء عند تقليب الصفحات الافتراضية وعند التجوال الطويل عبر المسارات الرقمية المتشابكة الممتدة بلا بداية ولا نهاية، حتى لو كان ذلك من غير وعي أو قصد.

لقد أصبح مجرد امتلاكنا لجهاز كمبيوتر موصول بالشبكة امتلاكا لكل العوالم الافتراضية الغزيرة بعجرها وبجرها وبكل ما فيها من غث وسمين وجليل وحقير.وأي معنى أكبر وأخطر من أن تصير كل تلك العوالم العجيبة الساحرة الآسرة بين أيدينا دفعة واحدة نسافر في أرجائها الفسيحة بحرية متى شئنا وكيف شئنا، ولمجرد نقرة خفيفة أو جرة كف بسيطة تمسك بفأرة الحاسوب من غير رقيب أو حسيب اللهم رقابة الضمير، إن كانت هنا بقية حياة للضمير وللرقابة الذاتية في هذا الزمن الذي يتحول ويتغير بسرعة جنونية؟ ! .

إن غزارة مواد العوالم الافتراضية التي يتفنن أصحابها في كل يوم جديد في طريقة عرضها وتقديمها هي في حد ذاتها مشكلة كبرى، وإذا لم نحسن تدبيرها وتصريفها يمكن أن تصيبنا بنوع من النهم والإدمان الذي قد يؤدي إلى نوع من الخمول الفكري والتبلد الحسي الناتجين عن التخمة الافتراضية الزائدة. ومن هنا وجب علينا أن ننتبه إلى حجم الأضرار والعلل والأمراض الناجمة عن سوء التغذية الافتراضية في غياب الوعي وشروط السلامة الصحية الجسمية والعقلية عند الإقبال غير المعقلن على مواد الأنترنت المختلفة، تماما كما هو الحال بالنسبة لاستهلاك المواد الغذائية الطبيعية أو المصنعة، الطرية أو المعلبة.

وقد استطاعت أجهزة عرض المعلومات الرقمية الحديثة من هواتف وحواسب ثابتة أو محمولة وبما توفره من حميمية وسرية ومن مرونة وسلاسة وتخزين وتشفير وتمويه ومحو لكل أثر أو بصمة عند عبورنا بأحد المسارات الافتراضية الموبوءة أو المشبوهة أن تغير كثيرا من ملامح القراءة الورقية وطرق التلقي السمعي البصري القديمة.

وبما أن عمر الإنسان قصير وبما أن ما يعرض على الشبكة العنكبوتية غزير غزارة الطوفان المتدفق بقوة وعنف فإن تدبير علاقتنا بالعوالم الافتراضية عند التصفح والقراءة أصبح اليوم مطلبا ضروريا حتى لا نسقط في الضحالة والسطحية أوالبياض الافتراضي إن صحت لنا هذه العبارة.

لقد صرنا نخشى أن يفوتنا جديد العوالم الافتراضية اليومي فترانا نقفز من موقع إلى موقع ومن مدونة إلى أخرى نلتهم العناوين والصور بسرعة جنونية تتجاوز سرعة عقارب الساعة التي نحملها في معصمنا. وقد نمضي على هذا الحال الساعات الطوال دون أن ننتبه لنفسنا وللوقت الضائع المنفلت منا دون أن ندرك غاية أو نستفيد غنيمة من وراء كثير من الرحلات والجولات الافتراضية التي لا نجنى منها في كثير من الأحيان غير إرهاق الجسم وإضعاف البصر والبصيرة.

ونحن في هذا الوضع الافتراضي السريع المتقلب أشبه ما نكون بالمسافر في القطار فائق السرعة الذي يرى أشياء كثيرة تمر أمامه، ولكنه في واقع الأمر لا يرى شيئا لأن ما يلمحه ذلك المسافر عبر نوافذ القطار بسرعة البرق يمكن أن يمحى من الذاكرته بنفس سرعة البرق أيضا.
وقد تبين لي من خلال تتبع حركة زوار مدونتي (كلمات عابرة) أن كثيرا من زوارها لا يمكثون عندها إلا لثوان معدودة، فيكون وضعهم أشبه ما يكون بوضع ذلك المسافر وبوضع الطيور الوجلة أيضا لأنها ما تكاد تقع على الأرض حتى ترتفع عنها بسرعة. وكثيرا ما أتساءل مع نفسي: ما جدوى هذا العدد الهائل من الزوار العابرين بمن هذا الموقع أو ذاك بتلك السرعة؟، وهل ما نكتبه أو ندونه لا يحمل أية قيمة أو فائدة تقتضي الوقوف والتلبث؟، أم أن العيب كامن في عادات القراءة الافتراضية السائدة ؟!

إن التغذية الافتراضية الناجعة تقتضي التخير والانتقاء والتلبث الطويل عند بعض المواقع والمدونات والمنتديات التي تقدم صيدا معرفيا لائقا أو خبرة تقنية مفيدة بدل إضاعة الوقت في القفز السريع والتنقل المستمر عبر مواد الأنترنت التي لا يمكن أن تنفد أو تنتهي عند سقف محدد.
والغريب أن عدوى القراءة الافتراضية المبنية على العجلة والعشوائية قد انتقلت إلى مجال القراءة الورقية أيضا. فأصبح صبرنا على قراءة الكتب والجرائد قليلا، ولذلك كثيرا ما ترانا نلتهم بعيوننا عناوين أعمدة الجرائد وفقرات الكتب بسرعة وعشوائية دون تركيز أو تدقيق في التفاصيل تماما كما هو حالنا عند تقليب الصفحات الافتراضية.

وكل هذا من شأنه أن ينعكس في الأمد القريب أو البعيد سلبا على مستوى التحصيل الفكري الذي يتدحرج نحو السطحية والغوغائية، والتعبير اللغوي الذي ينزل في كل يوم في اتجاه الإسفاف والابتذال والعامية.