الاثنين، 15 فبراير 2010

خلاصة تجربتي في الكتابة عن التدوين

بدأت الكتابة عن التدوين العربي منذ ما يزيد عن أربع سنوات، في وقت كانت لازالت مساحة التدوين العربي شبه خالية؛ إذ كان أكثر المدونين بالعربية حينها معدودين معروفين بأسمائهم أو بعناوين مدوناتهم التي تدل على أشخاصهم. وكانت معظم المواقع العربية التي تقدم خدمة الاستضافة المجانية في طور التجريب أو عند إصداراتها الأولى.

أما المواقع الغربية فلم تكن تدعم اللغة العربية إلا بشكل جزئي بسيط لا يكاد يُعتد به. وحتى موقع كوكل الغني عن كل تعريف لم يبدأ في دعم التدوين بالعربية إلا مؤخرا، كما أو ضحت ذلك في إدراج سابق.

ونظرا لتطاول العهد بيننا وبين اللحظات الأولى لظهور التدوين العربي، ربما غابت عن بعض المدونين الجدد الصورة البدائية الأولى التي كان عليها واقع التصفح الإلكتروني منذ عقد واحد أو أكثر من ذلك بقليل، بخلاف ما هو عليه الحال الآن من حيث جودة التقنية ومن حيث السرعة ومن حيث جمالية التنسيق وجاذبية العرض، ومن حيث غنى المحتوى الافتراضي وتنوعه.

وكنت قد كتبت أول إدراج عن التدوين العربي يوم سادس عشر فبراير شباط سنة 2006. أي منذ أربع سنوات كاملة. وهذه المدة وإن عدت، في حساب الزمن الطبيعي، قصيرة فهي في عمر الزمن الافتراضي أطول مما قد يُظن للوهلة الأولى. فأنا شخصيا أعد كل سنة افتراضية بعشر سنوات عادية. نظرا لسرعة التطور التقني التي تشهدها عوالم الاتصال المرتبط من جهة، ونظرا لحجم الامتلاء الهائل الذي يشهده جوف الإنترنت في كل يوم جديد من جهة ثانية. فأي واحد منا اليوم يستطيع أن يحصي عدد من انضم إليه في الفترة الأخيرة من المدونين بالعربية، من كل قطر ومن كل ناحية ؟.

وكان أول موضوع كتبته عن التدوين العربي تحت عنوان:( حديث المدونات العربية.. قراءة أولية في مشهد التدوين العربي. )، بتاريخ 16 فبراير عام 2006. ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا كتبت ما يزيد عن مائة إدراج. وكل إدراج بعنوان مختلف.

ويستطيع القارئ الكريم أن يستعرض تلك الإدراجات بعناوينها المختلفة عن طريق رابطيها المباشرين على العمود الجانبي لهذه المدونة تحت فئة (تصنيف)؛ والأول منهما تحت عنوان:(عن التدوين والمدونات)، أما الثاني المتمم للأول فتحت عنوان: (من وحي الإنترنت).
ولا شك أن الارتباط بين الحديث عن التدوين وبين الحديث عن الإنترنت قوي ومتين، ولايمكن أن تفك أواصره؛ فهو ارتباط الخاص بالعام وارتباط الجزء بالكل؛ فالتدوين جزء صغير معلق في سماء العوالم الافتراضية، وهو نتاجها وابن جلدتها إن صح لنا هذا التعبير.

ولما كانت موضوعات التدوين مختلطة بغيرها من الموضوعات العامة التي شغلتني طوال هذه المدة من عمر هذه المدونة (كلمات عابرة) فقد أفردت لقضايا التدوين مدونة خالصة تحت عنوان: (تدوين التدوين). ويمكن استعراضها أيضا من خلال الرابط التالي.

وقد كانت خطتي في التدوين، باختصار شديد، تقوم على خمسة أهداف أساسية:

الهدف الأول: اختيار العناوين الدالة القادرة على اختزال التفاصيل الكبرى لواقع التدوين العربي ولتجاذباته المختلفة التي تبتدئ من المدون نفسه ومن انفعالاته الذاتية وتنتهي عند تفاعلات الآخرين والمجتمع. وعسى أن تتوضح الرؤى أكثر حول هذه العناوين والمضامين من خلال جهود زملائي في التدوين، خاصة بعد ظهور مواقع ومدونات ومنتديات عربية خاصة بقضايا التدوين العربي في الآونة الأخيرة.

الهدف الثاني: تبسيط المفاهيم عند تحليل الظواهر وعرض المشكلات بهدوء ورزانة بعيدا عن التطاحنات والحسابات ومن غير صخب أو جلبة.

الهدف الثالث: تقريب المسافة بين المدون والقارئ وحثهما على التفاعل الإيجابي بحيث يمكن لهما أن يتبادلا الأدوار ويؤثر أحدهما في الآخر، وبحيث تكون علاقتهما منتجة ومجدية وغير عقيمة أو غوغائية.

الهدف الرابع: الرفع من مستوى التدوين العربي شكلا ومضمونا، حتى لا نفسح المجال أكثر للعابثين والمجانين والمستهترين الذي يعيثون في الفضاء الافتراضي العربي فسادا وانحلالا وانحطاطا.

الهدف الخامس: تيسير العربية بجعلها أداة حية طيعة سلسلة وأنيقة في يد المدون، كما كانت سابقا لدى فطاحل الكتاب والمؤلفين العرب.
أوليس التدوين اليوم، إحدى طرق التأليف والكتابة ولكن بصيغة جديدة استطاعت أن تفرض نفسها وتشق طريقها نحو عوالم النشر الورقي أيضا. فليس هناك كبير فرق بين ما حاوله أسفلافنا وبين ما نحاوله، وبين ما راودهم وبين ما يراودنا الآن من شؤون وشجون، وإنما العبرة في كل وقت، بالإنسان نفسه من حيث هو إنسان، وليست العبرة فقط بالمكان والزمان وبمن تقدم أو تأخر…

وأنا عندما جئت إلى عوالم التدوين كنت أحمل معي همومي وهموم غيري، وفي جعبتي منتهى أملي وما وصل إليه علمي وفهمي وخيالي…
وعسى أن أكون بهذه المدونة المتواضعة قد أفدت، وإلى واقع التدوين العربي قد أضفت. وأن يكون ما أدرجناه فيها مما يحسب لنا لا علينا.
وشكري سيظل موصولا أبد الدهر، كما أسلفت في المقدمات إلى كل من زار أو علق أو تواصل وراسل.

الخميس، 4 فبراير 2010

التكوين المعرفي في خضم التصفح الإلكتروني السريع

التكوين المعرفي في كل زمان ومكان مطلب روحي لرفع بعض حالات الغموض عن العوالم الخفية للذات الإنسانية الفردية ولمحيطها الجمعي العام.

ومنذ القدم شُدت الرحال نحو الآفاق البعيدة للتزود بالمعارف الإنسانية وقطف ثمار العقول البشرية حيثما وجدت.وقد استرخص المرتحلون والمغامرون الأولون في سبيلها أرواحهم وأموالهم، لتبقى خطوط الاتصال المعرفي الإنساني متصلة في الزمان والمكان عبر رسائلهم ومذكراتهم ومصنفاتهم. وإن بقي تداولها في الزمن الأول البعيد عنا محصورا في فئة عالمة مخصوصة قليلة.

أما اليوم، ومع وصول خطوط الاتصال المعرفي إلى كل بيت عبر صبيب الإنترنت المتدفق طول الوقت، فقد أصبح بإمكان كل واحد منا أن يؤسس مملكته المعرفية الذاتية وينشئ مكتبته الافتراضية الخاصة، على حاسوب متصل أو مجرد ذاكرة فلاشية تندس في الجيب مع قطع النقود وسلسلة المفاتيح.

ولم تعد المشكلة اليوم في تحصيل الموارد المعرفية كما كان الأمر مع أسلافنا، لأنها أصبحت متاحة على الشبكة العنكبوتية بكميات هائلة يفنى العمر بأكمله في تحصيلها والسعي وراءها قبل أن ينفد أو ينقطع القليل منها، وإنما المشكلة الكبرى في تدبير تلك المعارف وجعلها ملائمة لمتطلبات الوقت ولحاجات النفس الضرورية قبل الكمالية.

وهكذا، قد يمضي الواحد منا شطرا كبيرا من حياته اليومية في ملاحقة جديد الكتب والصور والتسجيلات الصوتية والحوادث والمفارقات العصرية وحتى النكت اليومية الطرية، عبر المواقع وعبر محركات البحث الإلكترونية، ولكنه لا يمضي إلا وقتا قليلا في القراءة أو في المشاهدة أو في الاستماع، فيضيع على نفسه فرصة التغذية الروحية المفيدة أو الممتعة، وذلك بتثبيتها حيث يمكن أن تتنزل في العقل أو الوجدان…

وفي العوالم الافتراضية، ورغم تجددها المستمر عبر التحديث اليدوي أو الآلي للمواقع والصفحات الإلكترونية، يبدو كأن المعارف المودعة فيها تذبل أمام أعيننا بسرعة، كما منتجات الحليب ومشتقاته المحفوظة بتقنية عالية في رفوف الأسواق التجارية الممتازة، ربما لأن كل شيء فيها محكوم بالسرعة المتزايدة في كل يوم؛ سرعة الاستهلاك قبل بوار منتوج الحليب الطري، إن فات أجله الموعود ولم يعد طريا، وسرعة الصبيب وسرعة استجابة الحواسيب عند فتح النوافذ أو إغلاقها وسرعة اليد التي تتحكم في الفأرة أو في المجسات الإلكترونية على شاشات العرض الزجاجية الملساء من غير أزرار أو نتوءات، وسرعة حدقة العين لدى التصفح والتقليب، وسرعة القفز المستمر عبر المواقع والصفحات الإلكترونية كما يفعل النسناس في الغابة عندما يتنقل بين أغصان الأشجار بحركاته البهلوانية العشوائية…

وربما لهذه الأسباب ولغيرها من العوامل الأخرى الخاصة بكل متصفح على حدة، قد يصعب علينا اكتساب أو فرض عادة مضبوطة مدروسة سلفا لتصفح عقلاني منظم مثمر، لأن العوالم الافتراضية هي في حد ذاتها عوالم غير منطقية، وهي مبنية في جزء كبير منها على العشوائية، عشوائية ترتيب المواقع وعشوائية البحث الإلكتروني الآلي الذي ما زال يعتبر أبناء عبد الواحد، عند البحث عنهم على الشبكة العنكبوتية، كأنهم شخص واحد.

وأخطر ما في الأمر أن الجزء الأكبر من وقتنا يضيع في التصفح والتحليق الافتراضي الذي قد يستمر بنا لساعات طويلة دون أن ننتبه حتى يأخذ منا التعب مأخذه الشديد، فنغادر منصة حاسوبنا المتصل، دون أن نجني فائدة كبرى باستثناء متعة التحليق الهوائي التي تبهرنا وترينا كل شيء من فوق وكأنه قريب منا فإذا هو بعيد، وحتى إذا ما حاولنا استرجاع ما اطلعنا عليه سابقا لم نظفر إلا ببقايا صور مجتزأة وكلمات مقطعة لا يستقيم معها سياق جملة واحدة مفيدة.

وربما هذا حال ناشئتنا اليوم إذا لم نبالغ في التشاؤم؛ فهم يدعون المعرفة بكل شئ يخص تقنية الأزرار ومناورات ألعاب الفيديو، ولكنهم قد لا يعرفون شيئا كبيرا وراء ذلك كله فيما يخص تجارب الحياة اليومية وحقائق؛ وقد يكفي أن تمتحنهم بقطعة إنشاء أو شكل نص أو إعراب جملة عربية بسيطة أو تسألهم أسئلة تاريخية أو جغرافية أو دينية…

وقد بدأت كثير من سلبيات التصفح الإلكتروني السريع تنتقل إلى مجال التصفح الورقي لتعدي حتى المدمنين سلفا على قراءة الكتب الرصينة والمجلات المحكمة ؛ فأصبح أكثرنا ـ نحن المخضرمين ـ لا يطيق قراءة المقالات الصحفية الطويلة وإنما يكتفي بعناوينها ورؤوس أقلامها.

وإذا كنا نحن اليوم لا نصبر الصبر القليل على قراءة عمود واحد مع أننا حديثو العهد بالتكنلوجيا، فمن أين سنأتي بالصبر الجميل حتى نتحمل عبء قراءة كتاب أو باب كامل دفعة واحدة فيما سيستقبل من الأيام عندما ستعم التكنلوجيا وتتحكم في كل حركاتنا وسكناتنا؟.

أظن أن ظاهرة التصفح السريع تنذر بظهور نوع جديد من الأمية الخفية؛ فالمعارف الجديدة لخفتها وسرعة ذوبانها واختفائها قبل الانتفاع بها تنجذب نحو السطح دون أن تتشربها الأرواح والعقول والقلوب، وحيث يمكن أن تتنزل وتحدث الأثر الباقي الساري المفعول.

كنت ولا زلت أومن بأن التصفح الإلكتروني السريع كالرؤية من نافذة القطار الضيقة، تريك أشياء كثيرة ولكنها في الحقيقة لا تريك شيئا، إلا من أحب النزول والسعي بالأقدام والمكوث الطويل عند كل مشهد أو عند كل محطة.