الخميس، 26 أبريل 2012

الإعلام الرقمي وقضية اللغة العربية

لم يكن الخبر متاحا لسكان الأرض مثلما هو اليوم، فهناك عدد لا يحصى من المواقع الإخبارية الرقمية الدولية والوطنية والمحلية التي تتنافس في اقتناص الأخبار وتقديمها لعموم المتصفحين في ذات اللحظة وقبل أن يزول عنها بريق الطراوة…

يذكرني الوضع الإعلامي الرقمي في بلدنا المغرب وفي العالم كله بمشهد بائعي السمك عندما يتفننون في عرض ما جادت به قوارب الصيد أمام أنظار الزبناء كل حسب طريقته في ترتيب السمك وتصنيفه، وحتى عندما يتنافسون في الصياح والمناداة على الزبناء كل حسب أسلوبه ومبلغ علمه أو حيلته…

وكما تحيط ببائع السمك ضائقة الوقت، إذ عليه أن يسرع في بيع سلعته في الصباح الباكر وقبل أن تتوسط الشمس كبد السماء وإلا حلت به الخسارة الكبرى، فكذلك حال محرري الأخبار على المواقع الإلكترونية إذ عليهم أن يكونوا السباقين إلى اصطياد الأخبار الطازجة وتقديمها بسرعة إلى القراء الرقميين قبل أن يحل بها البوار أيضا.

وإذا كانت ضائقة الوقت مبررا معقولا بالنسبة لمحرري أخبارنا الوطنية والمحلية للاعتذار عما يقترفونه من أخطاء في حق لغتنا العربية، فإن هذا العذر لا يمكن أن يكون مقبولا بأي حال من الأحوال وإلا حلت بلغتنا الطامة الكبرى؛ لأن التساهل في الأمر القليل مطية إلى الفساد الأكبر. ولطالما سمعنا من أفواه آبائا المثل المغربي المعروف والذي مفاده أن سمكة واحدة فاسدة كفيلة بأن تفسد كل ما حولها.

لا شك أن مشهدنا الرقمي المكتوب بالعربية موبوء ومليء بالأخطاء والأمراض والعلل، وهو في حاجة ماسة إلى تشخيص عام، بغية وضع خطة عملية للعلاج والتقويم من لدن أهل العلم بقواعد اللغة العربية وأصحاب الاختصاص.

ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام فرض وصاية لغوية إجبارية على أصحاب المواقع الإخبارية، وإنما هذا الكلام مجرد همسة في الآذان لمن يملك في قلبه وحسه اللغوي غيرة على شأن لغتنا العربية التي لطالما نعتها رواد الصحافة الأوائل بأنها لغة جميلة.

وإننا هنا لا نطلب من محرري الأخبار الرقمية أن يجملوا لغتهم بسحر البيان العربي لأن هذا مطلب عزيز يحتاج إلى مراس طويل بأسرار اللغة العربية، وخاصة في أساليبها الرفيعة المختارة، وإنما فقط مراعاة الحد الأدنى من قواعد الضبط اللغوي؛ من قبيل قواعد الإملاء، وقواعد الإعراب والتقديم والتأخير، أو ما يعرف عند النحاة العرب بقانون الصدارة. هذا القانون الذي يجعل لغتنا العربية تختلف عن لغات جيراننا في أوروبا.

وسأضرب هنا مثالا واحدا فقط على سبيل التمثيل والتوضيح: فعبارة (ممنوع التدخين) الشائعة في تعبيرنا اللغوي العربي المعاصر هي ترجمة حرفية أو بالأحرى استنساخ للوضع اللغوي الفرنسي؛ وإذا كان قانون الصدارة في التعبير الفرنسي يجيز تقديم الخبر على المبتدأ، وإذا كان قانون الصدارة في التعبير الألماني يجيز تأخير الفعل عن الفاعل والمفعول به أيضا، فإن قانون الصدارة في التعبير اللغوي العربي لا يجيز مثل ذلك إلا عند الضرورة القصوى ولاعتبارات بلاغية خاصة يمكن الرجوع إليها في في كتب النحاة. وإذن فالصواب أن نقول: التدخين ممنوع.

وهذا فقط مثال واحد من بين آلاف الأمثلة التي تحتاج إلى إعادة تصحيح وترتيب… ولو عممنا أسلوب الاستنساخ هذا لم يعد للغتنا العربية أصل يعتد به البتة.

وليت هذا الاستنساخ اللغوي الغريب بقي محصورا في الإعلام الرقمي فقط بل أصبح ظاهرة عامة نجدها في الإعلام العربي المسموع والمرئي؛ مثل نشرات الأخبار المعدة سلفا من قبل محررين رسميين موظفين لهذا الغرض، فضلا عن بقية البرامج الحوارية المباشرة والبرامج الترفيهية الحرة، والطامة الكبرى في وصلات الإشهار التي يختلط فيها الحابل بالنابل وحيث يتمثل بصورة صارخة الجهل التام بأبسط قواعد الصحة اللغوية لدى القائمين عليها، والأدهى من ذلك كله أن ينتقل هذا الداء العضال إلى أوساط التلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعات.

ولو بذل الإعلام الرقمي والإعلام المسموع والمرئي والمكتوب قليلا من الجهد في الضبط والتصويب اللغويين حتى يصير لديها عادة طبيعة مثل بقية شعوب العالم التي تحترم شعورها اللغوي القومي لكان حال لغتنا اليوم كحال لغتنا عند أول عهدنا بالإعلام والصحافة في نهاية القرن التاسع عشر وفي القرن الماضي عندما كان كبار الصحافيين والإعلاميين هم كبار الكتاب والشعراء أيضا.

وكان الواحد من إعلامييي وصحافيي ذاك الزمن المنقضي يعرف أكثر من لغة أوربية ويتقنها إتقان الأكاديمي المتخصص؛ بحيث يترجم عنها وإليها دون أن يحدث لديه تداخل بين لغة الانطلاق ولغة الوصول، على خلاف ما هوعليه الحال اليوم لدى كثير من المواقع والقنوات والصحف التي تنتسب في الظاهر الى اللغة الأم العربية، وفي الباطن، عند التأمل والتحليل، إلى الفرنسية أو الإنجليزية وغيرهما من اللغات الأمهات في الرضاعة…

الجمعة، 6 أبريل 2012

ملهاة ورواسب افتراضية.


ما يُرى على سطح بحر الإنترت العظيم هو ما تحركه مجاذيف المبحرين القاصدين للهدف والتائهين. الكل يبحث الكل يجري ويلهث.
قلة قليلة تتزود في رحلتها الافتراضية الطويلة وتختار وتحتاط، وأكثرية هائلة تتقاذفها الأمواج من غير تحكم أو سيطرة وتقتات على الفتات.

إنها تراجيديا أو بالأحرى ملهاة افتراضية عجيبة نعيشها اليوم؛ وكل واحد منا له نصيب من مشهدها العام مما يقذفه غيرنا في بحارها ونصطاده نحن بعيون شباكنا الرقمية على الدوام.

ويلتقي أكثر الناس اليوم عند المواقع الاجتماعية الافتراضية الكبيرة في حركة جماعية تشبه حركة سمك السردين في أعالي البحار؛ لا يعنيهم أمر التزود من قوت البحر وكنوزه الثمينة المترسبة التي تحتاج إلى مراس وخبرة طويلة بفنون الغوص في الأعماق، بقدر ما يعنيهم الخوض في الزحام، والتدافع بالأكتاف لتلقي نصيبهم من الغثاء والهلام والزبد الذي يركب بعضه بعضا في السطح المكشوف والمفضوح بعد أن تتقاذفه أيادي المبحرين في كل اتجاه وناحية وتمزقه إربا إربا كما تمزق وتنهش لحوم الأضاحي…

ويكون أكثر هذا الغثاء أوالهلام أو الزبد الطافي إما في شكل نكتة، أو نميمة، أو فضيحة أو مقلب، أو صورة غريبة، أو رسم أو كاريكاتور، أو مونولوج أو دردشة فجة.. وغير ذلك من الفقاقيع الافتراضية التي قد تبهرنا بطراوتها الناعمة ولكنها سرعان ما تخبو ولا يبقى لها أثر يذكر في العقل أو الذاكرة أو الوجدان. وإذا كانت الطراوة هي مبدأ الحياة الجماعية الافتراضية وخاصة عند مواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة المعروفة، كما أوضحنا في إدراجات سابقة، فلأن جديدها هو ما يظهر لنا على السطح دوما بالتزامن مع حركة عقارب الساعة بالدقيقة والثانية, أما القديم منها بعض الشيء فسرعان ما يترسب ويرسو في قعر المحيط الرقمي ليتراكم على القديم والقديم جدا، في حركة دائمة تكون كثبانا ورواسب من (الأزبال)، أو بعبارة ألطف وأصح من المتلاشيات الافتراضية التي يكون أصلها إما حرفا مرقونا أو صورا وأصواتا ملتقطة.

وتلك المتلاشيات الافتراضية إذا اجتمعت في حيز واحد ربما تكون بحجم جبال أرضنا وهضابها الحقيقية… ولو حولنا موقع "اليوتوب" لوحده على سبيل المثال إلى أقراص مدمجة ووزعناها على كل بيت معمور لأمكننا أن نملأ كوكبنا الأرضي ضوء وصخبا وضجيجا. ولو ألقيت نظرة على الشارع العام بعد انتهاء ساعات الدرس والعمل لوجدته فارغا، إن وجدت الوقت لاختلاس نظرة خاطفة من نوافذ البيت الحقيقية، بعيدا عن نوافذ الحاسوب الافتراضية؛ فلا أعتقد أن أحدا منا تحدثه نفسه اليوم بالتطلع إلى وجه السماء ليلا ليتفقد حركة نجومها وكواكبها… إذ لا شيء يعلو على حركة الأضواء والحروف والنوافذ الرقمية المنبثقة من أجهزة العرض الرقمية لأنها أضحت، ولو بحجمها الصغير، سماوات تطاول السماء الحقيقية بأضوائها ونجومها وببهرجها وبسحرها أيضا…

الأب والأم والأطفال كل واحد في ناحية يتملى بطلعة سمائه الخاصة التي قد تكون حاسوبا أو لوحا رقميا أو هاتفا فائق الذكاء، والجدة المسكينة وحيدة بلا سماء بعد أن خف بريق عينيها تنادي بصوتها وتحث الجميع على النوم قبل أن يمضي أكثر الليل. وكأنها آخر أوصياء هذا الزمن على ما فاتها من زمن… لا شك أن مواعيد النوم قد تأخرت في أيامنا هذه، لأن عيون الأنترنت لا تنام، ولو أمكن للمبحرين الرقميين أن يبقوا أحياء بغير نوم لما ناموا ولما رف لهم جفن حتى تبقى مقلهم محدقة في تلك السماوات الافتراضية العجيبة على الدوام.

ولا شك أن عادات الغذاء الطبيعية قد تغيرت أيضا؛ فأكثر الناس اليوم ينفضون عن موائد الطعام بسرعة منصرفين إلى حواسيبهم التي تظل في وضعية السبات المؤقت ربحا للوقت، وخاصة في صفوف الأطفال والمراهقين الذين تستبد بهم الحاجة إلى متابعة برامج الألعاب والتسالي الافتراضية إلى درجة قد تذهلهم عن قضاء الحاجات الطبيعية الضرورية والوفاء بالمتطلبات المدرسية مما يتعلق بحفظ الدروس وإنجاز التمارين المدرسية في حينها، وقد يتناسوها ولا يعملون على إنجازها إلا في آخر لحظة أو بعد إلحاح شديد من الآباء أو الأوصياء. فعلا، لقد بدأت الإنترت تغير مجرى حياتنا العادية بدل أن نغيرها، وبدأنا نلائم ظروفنا الحياتية اليومية لظروفها هي مضطرين أو مختارين. وما أخشاه أن تصير الحياة الافتراضية في مستقبل الأيام في المحل الأول، وأن يصير واقع الناس اليومي الحقيقي في المحل الثاني، أو رهينة لزر من الأزرار…..