السبت، 9 مايو 2009

عام الحصيدة

من يسافر في هذه الأيام عبر ربوع المغرب ويسير بمحاذاة طرقه السيارة وغير السيارة أو سكة القطار يدرك أنه قد ولج في حصيدة ممتدة بلا بداية ولا نهاية.
ومنذ عقود خلت لم يحدث أن أخذ الفلاحة المغاربة التقليديون والعصريون كامل أهبتهم وعدتهم لموسم حصاد متميز وواعد بالعطاء الكثير كما في هذا الموسم.

وفي الوقت الذي بدأ فيه أسطول الحصاد العصري الجرار يخرج من مخبئه ليزحف في اتجاه الحقول الواطئة لجمع غلال القمح والشعير لا زال للمنجل نصيبه الموفور في التهام ما تبقى من حقول الحبوب المعلقة في أعالي التلال والجبال، وعند منحدراتها الصعبة الضيقة التي تستعصي حتى على حركة الدواب والأقدام فضلا عن عجلات آلة حاصدة أو جرار.

ولا حديث في أوساط الفلاحة التقليدين البسطاء عند التقائهم في أسواقهم الأسبوعية في هذه الأيام إلا عن المنجل والتبانتة(1) والصباعات(2) والتويزة والخماسة والمقاطعية(3) والكاعة والدرسة وهلم جرا….
وقد مضى عهد طويل لم تتحرك فيه حركة (الشوالة) كما تحركت في هذا الموسم. والمقصود هنا بالشوالة حركة حصادة الشمال في اتجاه الجنوب. فمن المعروف أن القمح ينضج في جنوب المغرب قبل شماله. وتلك فرصة لنزوح حصادة الشمال الجماعي في اتجاه الشاوية والرحامنة والحوز أوسوس أو فكيك في اتجاه الشرق للعمل المؤقت في حقول الغير…
وقد تستمر هذه الحركة شهرا كاملا أو أكثر قبل أن تعود جماعات الحصادة التي كانت تتنقل بمناجلها في كل موسم عبر الحافلات والقطارات وحتى مشيا على الأقدام لتوفير ثمن المركوب، لما يعرف به الحصادة في العادة من قوة ومن شجاعة وصبر وتحمل.
وخلال هذه المدة يكسب هؤلاء الحصادة بعض المال يدخرونه لأوقات الشدة، ويكتسبون عادات جديدة في العيش وفي التصرف وحتى في فنون الكلام لهجة وأهزوجة قبل عودتهم إلى قواعدهم سالمين غانمين…

وأذكر جيدا كيف كان يتباهى بعض هؤلاء الشوالة العائدين إلى قريتنا الصغيرة التي تقع في الشمال بما كسبوه من مال وبما جلبوه معهم من تحف بسيطة، تماما مثلما يتباهي اليوم بعض عمالنا في الخارج بما يجلبونه معهم من سيارات فارهة وهدايا، عند عودتهم في عطل الصيف وفي مواسم العودة المقترنة بالأعياد.

وقد لا يستغرب البعض منا من شعار الوزارة الوصية على الشأن الفلاحي بالمغرب الذي أطلقته هذا العام؛ وهو شعار المغرب الأخضر على غرار تونس الخضراء.
وهو شعار قد تم إعلانه خلال معرض مكناس الفلاحي الأخير للاستهلاك الخارجي فقط، وهو لا يعني في الداخل إلا فئة قليلة من كبار الفلاحين الإقطاعيين الذين لا ينتجون في ضيعاتهم العصرية إلا للأسواق الخارجية الغربية التي يصدرون إليها بالعملة الصعبة ما لذ وطاب من عجيب الخضر وغريب الفواكه التي ما وجدت في يوم من الأيام طريقا سهلا أو صعبا إلى مائدة المواطن المغربي المسكين إلا ما يراه عبر وصلات الدعاية والإشهار..
ثم ليبقى وضع غالبية الفلاحة المغاربة المساكين على حاله أو أسوأ بسبب سلوك السماسرة والمضاربين من أصحاب الشكارة الذين يغتنون على حساب الفلاح البسيط والفلاح الأجير كالبق العالق بالبقرة الحلوب يمتص دمها وطاقتها من غير هوادة أو رحمة.

ثم كيف يمكن لهذا الشعار أن يجد له صدى في أوساط عموم المغاربة الذين لم يعرفوا في السابق موجة غلاء كاسحة كهذا العام. إنه وباء الغلاء الفتاك بالجيوب، وأثمان الخضر والفواكه ما عرفت انخفاضا أو استقرار طيلة هذا العام.وقد أصبح مجرد التفكير في حمل القفة إلى سوق الخضر والفواكه مدعاة للحيرة والتخبط والإحباط، فتقدم رجلا وتؤخر أخرى وتفكرمرتين وتساوم ثلاث مرات أو أكثر، وخاصة عندما تدرك أن جيبك قد أصبح خاويا على عروشه قبل أن تملأ ربع تلك القفة الملعونة، وقبل أن تأتي على اقتناء أمهات الحاجات الضرورية لسد رمق الجوع اليومي، من بضعة حبات بطاطس وفلفل وطماطم…أما الفواكه فتلك قصة أخرى…

ترى،هل أصبحت الحصيدة مصيدة لجيوبنا، وماذا يجدي شعار المغرب الأخضر إذا لم تتحول معه موائد الكادعين في هذا البلد إلى ربيع متعدد الأصناف والألوان؟
ــــــــــــ
هامش:(1) التبانة هي الصدرية التي يضعها الفلاح على صدره وكانت تتخذ من جلد البقر أو الماعز لتقيه من الأشواك ومن نباتات الأحراش.
(2) الصباعات يتخذها الحصاد من أنبوبة القصب على قدر أصبعيه: الخنصر والبنصر خاصة لوقايتهما من ضربات المنجل العشوائية.
(3) المقاطع هو المساعد الرسمي للخماس، وتكون أجرته نقدا أوعينا، من جنس حبوب وغلال الموسم

ليست هناك تعليقات: